أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـات بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
إن التاريخ لا يصنعه إلا العظماء، وما أكثر العظماء الذين صنعهم الإسلام، فتحولوا به من رعاء الغنم إلى سادة الحضارات والأمم، قد أذهلوا عصور التاريخ بأسرها، وصار ذكرهم في العالمين خالدًا، ونحن اليوم على موعد مع عظيم من أولئك العظماء الذين صنعهم الإسلام على عينه، مع عملاق من عمالقة الإسلام الشامخين، مع أسد من أُسد الله الذين ينبض قلب كل امرئ منهم بحبهم، مع الفاروق عمر بن الخطاب.
عمر وما أدراك من هو عمر، ذلك الجبل الأشم الذي حوله الإسلام من رجل حجري القلب والمشاعر إلى قلب يتفطر على مصاب العباد، بل قلب وجل يخاف صاحبه أن يسأله الله عن دابة تتعثر في العراق: لم لم تفسح لها الطريق يا عمر؟
عمر الذي حوله الإسلام من رجل همل لا ذكر له بين العرب، إلى حاكم أعظم دولة عرفها التاريخ، إلى عملاق ترتعد فرائس الروم والفرس لذكره:
ولكننا لن نتحدث عن حياة عمر، وإنما سيكون حديثنا عن رحيل عمر، عن آخر لحظات الفاروق، لندرك كم كان ذلك العملاق عظيمًا عند مماته كما كان عظيمًا في حياته، لقد كان الفاروق ترجمة حقيقية لقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام/162].
عاش حياته لله عبادة وجهادًا وكفاحًا، وكان مماته كذلك في سبيل الله شهادة توجت صالح أعماله، ولن ينسى جبل أحد يوم كان عليه أفضل البشرية في ذلك الحين، رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان، فيرجف الجبل فيخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم: اثبت أحد ! فإنما عليك نبي و صديق و شهيدان) [رواه البخاري ومسلم].
فكان الصديق أبا بكر، والشهيدان عمر وعثمان، ولقد كان دعاء عمر بعد آخر حجة حجها في الإسلام: (اللهم كبرت سني ورق عظمي وخشيت الانتشار من رعيتي فاقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم) [الطبقات الكبرى لابن سعد].
وكان من دعائه رضي الله عنه: (اللهم ارزقني قتلا في سبيلك ووفاة في بلد نبيك) [الطبقات الكبرى لابن سعد].
وقد كان، فقد رزقه الله الشهادة على يد عدو الله المجوسي أبي لؤلؤة في المدينة بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يستشعر دنو أجله:
ونبدأ مع حضراتكم أحداث رحيل الفاروق بتلك الأيام السابقة لموته، والتي كان يستشعر فيها دنو أجله، فها هو يمر بقاتله أبي لؤلؤة فيقول للفاروق وهو يضمر الشر في نفسه: (لأصنعن لك رحى يتحدث الناس بها، فأقبل عمر على من معه، فقال: توعدني العبد) [عمر بن الخطاب للصلابي].
إنه عمر الملهم المُحدث، الذي حاز فراسة المؤمن وشفافية الشعور يشتم رائحة الموت في كلام المجوسي.
ثم ها هو يرى المنام ويأوله، فلقد خطب بالناس ثم قال: (رأيت كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات وإني لا أراه إلا لحضور أجلي) [الرياض النضرة في مناقب العشرة ].
عمر وهموم المسلمين:
وقبل وفاته رضي الله عنه بأربعة أيام، كان يشغل باله حال رعيته، ويخشى من أن يحمل أصحاب الخراج أكثر مما يستطيعون، فعن حصين عن عمرو بن ميمون قال (رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال كيف فعلتما أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق قالا حملناها أمرا هي له مطيقة ما فيها كبير فضل قال انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق قال قالا لا فقال عمر لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا) [صحيح البخاري].
إنها هموم عمرية، هموم عمر رضي الله عنه، والذي كان لا ينام إلا غفوات، يخشى إن نام النهار أن يضيع حقوق الرعية، ويخشى إن نام الليل ضيع حق نفسه في عبادة الليل، فأنعم به من راع وحاكم يحمل هم أمة بأسرها، هو لها كالوالد مع ولده.
شهيد الفجر:
وفي ذلك اليوم المشهود الذي فجع فيه المسلمون، خرج الفاروق عمر إلى صلاة الفجر، وكان من عادته أن يوقظ النيام في المسجد يقول: أيها الناس الصلاة الصلاة، وتقدم الفاروق إلى المحراب بعد أن أقيم للصلاة، وما إن كبر وشرع في قراءته حتى جاء عدو الله والإسلام أبو لؤلؤة المجوسي في جنح الظلام، متسللًا إلى مكان الفاروق ثم طعنه ثلاث طعنات، منها طعنة نفذت من أسفل بطنه إلى أحشائه، فسقط الفاروق في دمائه قائلًا: (أكلني الكلب).
وعلى الفور أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف وكان يصلي وراءه، فقدمه إلى المحراب يكمل بالمسلمين الصلاة، الله أكبر يا عمر، ما هذا الحرص على الصلاة في ذلك الظرف الصعب؟ لا تريد أن يقطع المسلمون صلاتهم، أهذا كل ما يشغلك وأنت مطعون يا عمر؟ لك الله يا فاروق الأمة، تعلم الأجيال من بعدك قيمة الحفاظ على الصلوات، أتعبت من بعدك يا عمر.
وأما المجوسي، فما إن طعن عمر حتى هرب وكان يمسك بخنجر ذي حدين، ما يمر على أحد من المسلمين حتى يطعنه، حتى طعن نحو ثلاثة عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجلٌ من المسلمين؛ طرح عليه ثوباً فلما علم المجوسي أنه مأخوذٌ قتل نفسه.
شيء أقلق الفاروق:
وبعد أن صلى عبد الرحمن بن عوف ركعتين خفيفتين بالناس، احتمل الناس عمر إلى بيته، وكان الفاروق يقلقه أن يكون القاتل رجلًا من المسلمين، لذا قال لابنه عبد الله: اذهب فانظر من قتلني.
لماذا يحرص عمر على معرفة القاتل في هذه اللحظة الحرجة من حياته؟ لقد كان الجواب على لسان الفاروق عندما أخبره ولده عبد الله بأن القاتل هو المجوسي، ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي لم يجعل قتلي بيد رجل يحاجني بلا إله إلا الله) [الاستيعاب في معرفة الأصحاب].
الله أكبر، عمر يخشى أن تكون نهايته على رجل سجد لله سجدة، وشهد بلا إله إلا الله، عمر العدل يخشى أن تكون مؤامرة من المسلمين عليه جراء ذنب قد اقترفه فيهم، فيقول: (يا عبد الله بن عباس، اخرج فناد في الناس إن أمير المؤمنين يقول: أعن ملأ منكم هذا فخرج ابن عباس فقال: أيها الناس، أعن ملأٍ منكم هذا؟ فقالوا: معاذ الله والله ما علمنا ولا اطلعنا) [المصدر السابق].
حتى في آخر عمرك يا عمر:
ويدخل على مر شاب من شباب المسلمين، قد أسبل ثيابه مخالفًا بذلك الهدي الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف يكف عمر عن إسداء النصح لرعيته، وهو الذي عاش بينهم آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، يقيم المسلمين على الجادة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي لطف وأدب جم، قال للشاب ناصحًا غير معنفًا: (يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك) [رواه البخاري].
هموم عمرية:
لقد كانت الساعات القليلة في حياة الفاروق عامرة بالهموم العظيمة، والتي تنبئ عن معدن تلك الشخصية وعظمها، هموم في لحظات التوديع، والتي لا تحتمل مثل كل هذه الهموم العمرية التي برزت على أوجها في تلك الساعات.
هم الدَّيْن:
لقد كان عمر الفاروق أمير أعظم دولة في التاريخ، مع كل ما اغتنمه المسلمون في فتوحاتهم، كان يعاني الفقر، حتى أنه كان يرقع ثيابه، وهو أمير المؤمنين، ولقد كان على الفاروق دين لم يوفه بعد، وخشي أن يموت دون قضاء هذا الدين، الله أكبر يا أمير المؤمنين، حاكم أعظم دولة عليه دين، فهل يشك عاقل في أن عمر الفاروق كانت يداه ناصعتين لم تتلوثا بأخذ مال المسلمين؟
فأمير المؤمنين الذي كان على خزائن الأرض مات وفي ذمته ستةٌ وثمانون ألفاً، فقال لابنه عبد الله: انظر ديني، فإن وفى فيه مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، وهم البطن الذي ينتسب إليه عمر، وإلا فسل في قريش، وهي قبيلته، ولا تعدهم إلى غيرهم.
هم الخلافة:
وكان من أعظم الهموم العمرية في تلك اللحظات الحرجة، فيمن يكون أمر المسلمين من بعده؟ هل يفعل كما فعل رسول الله إذ لم يستخلف أحدًا بعينه وترك الأمر للمسلمين والذين اختاروا أبا بكر الصديق؟ أم يفعل كما فعل أبو بكر عندما استخلف عمر بن الخطاب؟
فقال عمر(إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، رسول الله) [البخاري ومسلم].
لكنه مع ذلك أشار عليهم بخير من يحمل هذا الأمر، وهم الستة الذين توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص.
هم الصحبة تحت التراب:
ولقد كانت من تلك الهموم: أين يدفن عمر؟ لقد كان مغتمًا خشية ألا يدفن مع صاحبيه، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهي الصحبة في الحياة والصحبة في الممات، كان ذلك الأمر يشغل باله لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد دفنا في حجرة عائشة رضي الله عنها، فأنى له أن تتحقق له تلك الأمنية؟ يريد أن ينعم برفقة صاحبيه تحت التراب كما كان ينعم بها فوق التراب.
ومن أجل ذلك قال لولده: (انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه فقالت كنت أريده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي) [صحيح البخاري].
وكان عمر ممددًا ينتظر على أحر من الجمر ما يسفر عنه اللقاء، هل تتحقق أمنيته أم لا؟ فما إن جاء عبد الله بن عمر، حتى قال الفاروق: (ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال ما لديك قال الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت قال الحمد لله ما كان من شيء أهم إلي من ذلك) [رواه البخاري].
لكن عمر الفاروق الأواب الورع، خشي أن يكون حصّل أمنية بسيف الحياء من عائشة، فأوصى قائلًا: (فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين) [رواه البخاري].
رضي الله عنك يا فاورق الأمة يا أمير المؤمنين، لقد علمتنا كيف يكون الهم في الحياة، وكيف يكون الهم عند الممات، الله ألحقنا بالأحبة محمد وحزبه، وارزقنا رفقتهم في الجنان، واحشرنا في زمرتهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أفواج الزائرين:
إنه عمر الخليفة العادل، الذي تمكنت محبته من قلوب رعيته، بما بسطه من عدل وورع بين أيديهم، فها هو علي بن أبي طالب يدخل عليه ويدعو له، ويقول: (وقال ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت إني كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر) [البخاري ومسلم].
فيشهد له علي رضي الله عنه بحسن الصحبة، ليؤكد على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا إخوة بعضهم من بعض، ليدحض الفرى والاتهامات التي ألصقها الرافضة بالصحابة أنهم كانوا بينهم وبين علي بغضاء وشحناء.
ويدخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فيقول: (لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون) [صحيح البخاري].
ومع تلك المناقب التي عددها ابن عباس على مسمع الفاروق إلا إن عمر لا يتكئ أبدًا على عمله، فهو في وجل دائم من الله تعالى، فيرد على ابن عباس قائلًا: ( قال أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله تعالى منَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منٌّ من الله جل ذكره منّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه) [صحيح البخاري].
ويدخل عليه شاب من الأنصار، يقول: (فقال أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله كان لك من القدم في الإسلام ما قد علمت ثم استخلفت فعدلت ثم الشهادة بعد هذا كله فقال ليتني يا ابن أخي وذلك كفافا لا علي ولا لي) [صحيح البخاري].
ودخل الناس على عمر كلهم يودع الخليفة العادل الذي أسر القلوب بعدله ورحمته وتقواه وورعه، وقيامه بالمسئولية العظيمة تجاه الأمة.
لقد رحل الفاروق، وقد أتعب الخلفاء من بعده، فمن منهم يحذو حذو عمر مع رعيته، رحل الفاروق بعد أن كانت صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين، أفنى عمره في القيام بحق الله وحق الرعية.
رحل عمر على يد المجوسي الغادر، لا لشيء إلا لأن عمر هو ذلك العملاق الذي أسقط إمبراطورية الفرس المجوس الغاشمة لكي يفتح الطريق إلى العباد ليدخلوا في الإسلام طواعية، فكانت الضغينة وما زالت في قلوب الفرس وأذنابهم.
رحل الفاروق عمر، بعد أن علمنا في حياته وفي مماته، كيف تكون العبودية لله تعالى، وعلم الحكام درسًا خالدًا في أن أمانة الحكم والملك ليست بالشيء الهين، وإنما هي أمانة في عنقه، يخشى أن يسأله الله عنها، فيبذل كل جهد من أجل تلك الرعية التي استرعاه الله عليها.
رضي الله عنك يا أمير المؤمنين، وألحقنا الله بك وبصاحبيك، اللهم أقمنا على طريقهم، واحشرنا معهم في زمرتهم، وارزقنا الله رفقتهم في دار النعيم