استيقظت
باكرا كعادتي في السادسة صباحا .. اخذت حمامي المعتاد و شربت قهوتي
المعتادة و ارتديت بذتي البنية الاثيرة .. ثم نزلت ودعا منزلي لاتوجهه
لسيارتي التى اركنها في نفس المكان كل يوم على
بعد أمتار من العمارة التى اقطن بها .. فركبتها و ادرت النحرك و قبضت يداي
على المقود و انطلقت نحو عملي الذي اعمله منذ اكثر من عشرين عاما .. فأنا
استاذا بكلية العلوم جامعة عين شمس .. كل يوم اخذ نفس الطريق من منزلي في
ميدان سانت فاتيما بقلب مصر الجديدة الى جامعة عين شمس في ميدان العباسية
– لا ادري حقا لما اسموها جامعة عين شمس فمنطقة عين شمس تقع على بعد عشرات
الكيلومترات من مقر الجامعة في ميدان العباسية – اصل امام الجامعة قبل
الثامنة صباحا بدقائق و بصفتي استاذا يسمح لي بالدخول بسيارتي الى داخل
الحرم الجامعي .. فاركنها في مكانها المعتاد . ثم اترجل منها ملقيا
السلامات و التحيات على نفس الوجوه التى اراها كل يوم من سائس الجراج
مرورا ببعض الموظفين و الاداريين و الطلبه حتى وجوه الطلبه في الصباح لا
تتغير اغلبهم عابسون مرهقون من قله النوم لاسباب مختلفة .. حتى اصل الي
مكتبي في الطابق الثاني و هو ليس بمكتب كبير يليق باستاذ يفني حياته في
العلم لكنها غرفه صغيرة يوجد يها مكتب خشبي متهالك عليه كم غير عادي من
الاتربة التى اعتدت عليها و اعتادت علي .. هذه هي حياتي الروتينية منذ
اكثر من عشرين عاما .. أي منذ ان تخرجت من الجامعة في عام 1990 بتقدير
امتياز مع مرتبه الشرف .. فعينت معيدا ثم اثبت كفائتي و بجهدي و بابحاثي
اصبحت مدرسا ثم استاذا مساعدا ثم استاذا .. العمل و العلم اخذا كل وقتي
حتى انني نسيت ان اتزوج و يكون لدي اطفالا فمن في سني لديهم ابناءا في
المراحل الثانوية من التعليم .. أما انا منذ ان توفي والدي
و بعده باسابيع والدتي في صيف 2001 وانا اعيش بمفردي .. لا اجد ما يؤنس
وحدتي سوى قراءه الكتب و مشاهده مباريات الكرة . او الجلوس على مقهى النصر
مع صديقي شكري .. ربما حياتي الرتيبة دفعتني اكثر من مرة للتفكير جديا في
الزواج لكن اخر محاولاتي كانت منذ خمسة اعوام كنت وقتها في التاسعة و
الثلاثيين و لكنها باءت بالفشل مثل نظيراتها ... لا ادري لما احتشدت كل
هذه الذكريات في رأسي . يجب ان اخذ اوراقي الان و
اتجه الى قاعة المحاضرات فباقي اقل من عشر دقائق و تبدأ المحاضرة . و أنا
اجمع الاوراق من حقييبتي سمعت طرقات متقطعة على باب مكتبي ..

فقلت : ادخل

فتح الباب و لم انظر تجاهه فانا منشغل بجمع اوراقي و ترتيبها استعدادا لالقاء محاضرتي .. حتى سمعت صوتا نسائيا رقيقا يقول :

- صباح الخير يا دكتور طارق ؟؟

فالتفت
باتجاه الصوت فوجدت امامي ملاكا بلا شك ... امراة في مطلع الثلاثينيات
متفجرة الانوثة .. شعر بني مائلا الى الاحمرار قصير مصفف على طريقة (
ماريا كاريه ) ملامح وجهها هادئة انف دقيق و فم ترتسم عليه ابتسامة ساحرة
و اعين زرقاء في لون السماء الصافية .. متوسطة الطول .. ترتدي ملابسا ضيقة
مثيرة ربما لم يكن لائقا ان تأتي بهذه الملابس داخل الحرم الجامعي .. اخذ
عقلي يعمل سريعا .. هل هذه طالبة ؟؟ فقلت لنفسي
مستحيل فسنها اكبر من ان تكون طالبة و كذلك سنها اصغر من ان تكون أما لاحد
الطلبة .. كسرت الاسئلة التى تدور برأسي بسؤالها :

- مش حضرتك الدكتور طارق عبد العزيز ؟؟

فأومأت راسي بالايجاب و قلت :

- ايوة انا الدكتور طارق .

فاقتربت
نحو بدلال و مدت يدها لمصافحتي .. فارتبكت و قمت مسرعا فسقطت من يداي
الاوراق التي كنت احوال ترتيبها .. فلم اهتم و لكن وجدت ابتسامتها قد
اتسعت على شفتيها من ما زاد من ارباكي .. فمددت يدي و صافحتها و نظرت الي
في عيني تماما و قالت بصوتها الناعم :

- انا ياسمين علم الدين صحفية بجريدة الجمهورية .

لقد
اسرتني بنظرة عيناها فتجمدت مكاني للحظات و انا سارح في عيناها . لم انتبه
الا على سحب يدها الرقيقة التى غاصت بين يدي التى لاول مرة اشعر انها
كبيرة بهذا الحجم.. فابتسمت لها و قلت مستفسرا :

- خير ان شاء الله .. اقدر اقدم اي مساعدة .

- انا يا دكتور كنت عايزة أعمل معاك حوار صحفي عن الجامعة و احوالها و تطوير التعليم الجامعي في مصر و ..

فقاطعتها قائلا :

- انا معنديش مشكلة .. بس للاسف دلوقتي مش هينفع عشان انا عندي محاضرة

فاختفت الابتسامة من على وجهها و بدا عليها جدية اكبر :

- حضرتك فاضي امتى ؟؟

- ممكن بعد المحاضرة . يعني على الساعة 10 كده .

فابتسمت و قالت :

- خلاص على 10 .. شكرا يا دكتور و اسفه على انى أخرتك على المحاضرة .

لم تمهلني الرد و خرجت مسرعة من مكتبي .. أما انا فتجمدت
للحظات في مكاني و شعرت ان قلبي يخفق بقوة و بسرعه كبيرتين و شعرت بطاقة و
نشاط غير عاديين يدبان في عروقي و أوصالي فبدأت اجمع اوراقي بصورة اسرع ثم
القيت النظر على ساعة الحائط المعلقة فوق مكتبي فوجدتها قد تجاوزت الثامنة
و النصف بدقيقتين . فدعوت الله في نفسي ان تمر الساعة و النصف القادمتين
كالشرر حتى ياتي موعد مقابلتي مع هذه الفاتنة ...

-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

-2-

توجهت
الى قاعة المحاضرات و امسك بين يداي بعض الاوراق فاخذت اطالعها سريعا حتى
وصلت عند الباب فسمعت اصوات ضجيج و حديث بصوت عالى ربما الطلاب سئموا من
انتظاري لنحو عشر دقائق فقرروا تبادل الاحاديث لحين وصولي . لما دخلت
القاعة بدأ السكون يحل تدريجيا في القاعة . وضعت اوراقي على الطاولة و ركبت الميكروفون اللاسلكي في قميصي و تاكدت انه يعمل . ثم قلت :

- صباح الخير . أنا بعتذر على تأخيري .

بدات
بعض الهمهمات تاتي من هنا و من هناك . و بدات معها اتفحص وجوه الحاضرين
فالعدد كان قليلا مقارنة بالمرات السابقة لعل اقترابنا من نهاية الفصل
الدراسي جعل الطلبه يعزفون عن الحضور . و انا اقلب نظري في الحاضرين توقفت
عند .. ياسمين فابتسمت لها فابتسمت لي . فقد كانت مثل جوهرة ثمينة متلالاة
مدفونة في شاطىء رملي . قلت لنفسي ربما جاءت
لتحضر و تسمع اسلوبي في الشرح و التدريس و تكتب عنهما كلاما جيدا . فالتفت
الى اوراقي و ارتسمت علامة الجد على وجههي و بدأت اشرح بابداع و تركيز كما
لم اشرح من قبل . كنت سعيدا جدا كأنني مايستروا يقود فريقا لعزف اروع
الحان بيتهوفين . او لعلي ممثلا اوبراليا يقدم اروع لوحات اوبرا توسكا .
ما كان يزيدني حماسا و تركيزا كلما وقعت عيناي عليها صدفة او عمدا اجدها
مبتسمة و على وجهها انبهارا بي (( هكذا كنت اشعر )) انهيت الشرح في تمام
العاشرة و سالت تلامذتي :

- عندكم اي اسئلة ؟؟

فسمعت
كلمات من هنا او هناك متقاطعة و متداخلة تعني انهم استوعبوا ما قلته تماما
فشكرتهم و بدأ الطلبه في الانصراف بينما انا مهتم بجمع اوراقي و نزع
الميكروفون من على قميصي .. فنظرت الى المدرج فوجدته قد خلى من الجميع الا
هي .. الصحفيه ياسمين لازالت في مكانها على نفس ابتسامتها الهادئة .. ثم
قامت من مكانها و صفقت بيدها بحرارة شديدة.. فدب الحماس في نفسي و غرق
قلبي في سعادة غامرة . فابتسمت لها و قلت :

- يااه للدرجة دي شرحي عجبك .

- و اكتر يا دكتور .. انت مكانك يا دكتور اوروبا او امريكا .

- طب و نسيب البلد دي لمين ؟؟

تحركت ياسمين من مكانها و نزلت نحوي و هي تقول :

- البلد دي محتاجة نهضة علمية شاملة و مش بس علمية لا و كمان نهضة اقتصادية و سياسية و ثقافية .

- و ان شاء الله كل ده هيحصل .. كلها كام أسبوع و يبقى فيه رئيس و دستور و أهو بقي عندنا مجلس شعب و شوري و ..

فقاطعتني بحدة :

- مجلس الاخوان ..

فسالتها مستفسرا :

- ايه انتي بتكرهيهم ؟؟

- لا بحبهم و لا بكرههم و لا ليا في السياسة اصلا .. ده انا حتى الانتخابات مرحتهاش عشان مش مقتنعه بكل اللي بيحصل... في شباب قاموا بالثورة هم الاحق بيها .

فسالتها و لم انتظر ردا :

- من امتى اللي قاموا بالثورة في اي مكان بالعالم هم اللي بيحكموا ؟؟

- طب ما هو الظباط الاحرار في ثورة 52 هم اللي حكموا

- ايوة بس 52 ده كان انقلاب عسكري على الملك مش ثورة ..

سكتت ياسمين للحظات ثم نظرت نحو عيني مباشرة و سألت :

- و انت يا دكتور مع الاخوان ؟؟

- لا انا زيك مع الثورة و الشباب اللي قاموا بيها بس الفرق اني شاركت في الانتخابات و اخترت التيار اللي بيمثل الثورة فعلا .

أبتسمت ابتسامة عريضة ثم قالت :

- احنا ضيعنا وقت في الكلام عن السياسة .. نقدر نبتبدي في تسجيل الحوار امتى ؟

- انا فاضي من دلوقتي .

- طب ممكن نبدأ

- بس اكيد مش هنا لان في محاضرة تانية بعد اقل من عشر دقايق .

- لا ما هو اكيد مش هنا .

سكت كلانا للحظات فكرت فيها انى لابد ان اقضي اطول وقت ممكن معها اليوم كسرا لروتين حياتي المملة قبل ان اقول :

- طب ايه رأيك نروح نقعد في اي مكان نفطر و نسجل الحوار ؟؟

فقالت بتردد :

- بس انا فطرت من بدري و يعني هعطلك وانت عندك شغل .

- لا لا ابدا انا معنديش حاجة مهمه انهاردة .

- طب هو ما ينفعش نعمله في مكتبك ؟؟

فقلت نافيا :

- لا هتلاقي طلبه داخلين و خارجين و زمايلي .. الموضوع هيبقى صعب .

فبدا عليها انها اقتنعت بكلامي و قالت مستسلمة :

- خلاص اللي اتشوفه .. و عموما احنا مش هناخد وقت طويل .

- و انا تحت امرك .