الشيخ محمد بن صالح العثيمين
الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق رحمة
للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على من أرسله الله إليهم أجمعين، وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً
عبده ورسوله المصطفى على العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن
تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد:
فيا عباد الله، إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى حج بيت الله، ترجون
بذلك مغفرة ذنوبكم، وتؤملون الفوز بدار النعيم المقيم، وتؤمنون بالخلف
العاجل من الله عزَّ وجل .
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » (1) .
أيها المسلمون، إنكم تتوجهون إلى الله عزَّ وجل في هذه الأشهر، في أشهر
حرم إلى أمكنة فاضلة ومشاعر معظمة، تؤدون عبادة من أَجَلِّ العبادات، لا
يريد بها المؤمن فخراً ولا رياءً ولا نزهةً ولا طرباً، إنما يريد بها وجه
الله والدار الآخرة، فأدوا - أيها المسلمون - هذه العبادة، أدُّوها كما
أمرتم، مخلصين لله ومتَّبعين لرسول الله، غير غالين ولا مقصرين، فإن دين
الله - تعالى - بين الغالي فيه والجافي عنه .
أيها المسلمون، قوموا في سفركم وإقامتكم بما أوجب الله عليكم في الطهارة
والصلاة وغيرهما من شعائر الدين، إذا وجدتم الماء فتطهروا به للصلاة، قال
الله عزَّ وجل: ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا
طَيِّباً فُامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾ [المائدة:6]،
أدوا الصلاة جماعة ولا تشتغلوا عنها بشيء، فإن صلاة الجماعة تفوت والشغل
يمكن قضاؤه فيما بعد، صلوا الرباعية ركعتين من حين مغادرة بلدكم حتى
ترجعوا إليه فصلوا الظهر والعصر والعشاء على ركعتين ركعتين إلا أن تصلوا
خلف إمام يتم فأتموها أربعاً سواء أدركتم معه الصلاة من أولها أو من آخرها
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما جعل الإمام ليؤتم به » (2) ، وقال
صلى الله عليه وسلم: « فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » (3) ، اجمعوا
بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تقديم أو جمع تأخير حسب الأيسر
عليكم، هذا إذا كنتم سائرين، أما إذا كنتم نازلين فالأفضل ألا تجمعوا، وإن
جمعتم فلا حرج، صلوا من النوافل ما شئتم، صلوا صلاة الليل، صلوا الوتر،
صلوا ركعتي الضحى، صلوا كل شيء شئتم من النوافل في السفر إلا سنة الظهر
والمغرب والعشاء فالأفضل في هذه السنن الثلاث ألا تُصلى، تخلقوا بالأخلاق
الفاضلة من الصدق والسماحة وبشاشة الوجه وخفة النفس والكرم بالمال والبدن
والجاه، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، واصبروا على المشقة والأذى فإن
الله مع الصابرين، « وقد قيل: إن السفر يسفر عن أخلاق الرجال » (مـ) ،
وإياكم وأذية المسلمين بالقول أو بالفعل، إياكم والغيبة، إياكم والنميمة،
إياكم والكذب، إياكم والسخرية، فإن كل هذا من الأمور المحرمة، فإذا وصلتم
الميقات فاغتسلوا وطيبوا أبدانكم الرؤوس واللحى، والبسوا ثياب الإحرام غير
مطيبة إزاراً ورداءً أبيضين للذكور، وأما النساء فيلبسن ما شئن من الثياب
غير متبرجات بزينة، أحرموا من أول ميقات تمرون به وإن كان غير ميقاتكم
الأصلي؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقَّت المواقيت وقال: « هن لهن
ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة » (4) ، ومن كان في
الطائرة فليتأهب للإحرام قبل محاذاة الميقات ثم يحرم إذا حاذاه بدون
تأخير، وقد قِسْتُ ما بين مطار القصيم إلى ميقات المدينة فصار ما بين خمس
وثلاثين دقيقة إلى أربعين دقيقة، وإذا خشي الإنسان أن يفوته الميقات فلا
بأس أن يحتاط ويحرم ولو قبل خمس وثلاثين دقيقة، أحرموا بالنسك من غير تردد
ولا شرط، أي: أحرموا جازمين ولا تقولوا أن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني؛
لأن ذلك لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم - إلا إذا خفتم من عائق
يمنعكم من إتمام النسك من مرض أو غيره فقولوا عند الإحرام: إن حبسني حابس
فمحلي حيث حبستني؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد ضباعة بنت
الزبير حين قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأجدني شاكية، قال لها صلى
الله عليه وسلم: « حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني فإن لكِ على ربك ما
استثنيتِ » (5) ، أما هو بنفسه فإنه لم يستثنِ ولم يشترط، وخير الهدي هدي
محمد صلى الله عليه وسلم، أحرموا بالعمرة قائلين: لبيك الله عمرة، لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك والملك، لا شريك
لك، وارفعوا أصواتكم بالتلبية، ارفعوها بقدر ما تستطيعون من غير مشقة، فقد
ثبت أن الصحابة - رضي الله عنهم - « كانوا يصرخون بالتلبية صراخاً حتى تبح
أصواتهم » (6) ، ومن العجب بل من المؤسف أنه تمر بك أفواج الحجيج لا تسمع
لهم تلبية وهذا إما جهل منهم وإما تهاون وكلاهما يؤسف له .
إذاً: فارفعوا أصواتكم بالتلبية بقدر ما تستطيعون، أما النساء فلا يرفعن
أصواتهن، فإذا وصلتم المسجد الحرام فطوفوا بالبيت طواف العمرة سبعة أشواط
ابتداءً من الحجر الأسود وانتهاءً به، وقد وضعت الحكومة - وفقها الله -
وضعت علامة على الحجر الأسود وهو الخط البُنِّي الذي يمتد من صلب الحجر
إلى نهاية المطاف فيكون البدء منه، ولا حاجة إلى الوقوف على هذا الخط بل
الإنسان يمر به وهو ماشٍ بدون توقف، طوفوا بجميع البيت، لا تدخلوا بين
الحِجرِ والكعبة، فمن دخل بين الحِجرِ والكعبة فإن طوافه لا يصح، ولا
تكلفوا أنفسكم بمحاولة الوصول إلى الحجر الأسود لاستلامه أو تقبيله
وأشيروا إليه عند المشقة، ولا تكلفوا أنفسكم - أيضاً - بمحاولة الدنو من
الكعبة فإن الخشوع في الطواف أفضل من القرب إلى الكعبة، واعلموا أن جميع
المسجد مكان للطواف حتى السطح الأعلى و الأوسط، فإذا أتممتم الطواف فصلوا
ركعتين خلف مقام إبراهيم إن تيسَّر وإلا ففي أي مكان من المسجد ثم اسعوا
بين الصفا والمروة سعي العمرة سبعة أشواط ابتداءً بالصفا وانتهاءً
بالمروة، ذهابكم من الصفا إلى المروة شوط ورجوعكم من المروة إلى الصفا شوط
آخر، فإذا أتممتم السعي فقصرا رؤوسكم من جميع الجهات؛ حتى يظهر أثر
التقصير على الشعر، والمرأة تقصر بقدر أنملة، أي: فصلة إصبع، وبذلك تمت
العمرة فتحلون الحل كله، فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة فأحرموا بالحج
من مكانكم الذي أنتم فيه واصنعوا عند الإحرام بالحج كما صنعتم عند الإحرام
بالعمرة قولاً وفعلاً إلا أنكم تقولون: لبيك حجاً بدل لبيك عمرةً ثم صلوا
بمنى ظهر اليوم الثامن والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصراً بلا جمع،
تصلون كل صلاة في وقتها وتصلون الرباعية ركعتين اقتداءً برسول الله صلى
الله عليه وسلم، فإذا طلعت الشمس في صباح اليوم التاسع فسيروا إلى عرفة
وصلُّوا بها الظهر والعصر قصراً وجمعاً بالتقديم ثم اشتغلوا بذكر الله
ودعائه والتضرع إليه، وارفعوا أيديكم حين الدعاء متضرعين إلى الله مستقبلي
القبلة ولو كان الجبل خلفكم، وكل عرفة موقف إلا بطن الوادي عُرَنَة،
وانتبهوا أيها الإخوة، انتبهوا لحدود عرفة؛ فإن بعض الناس ينزل قبل أن يصل
إليها ثم ينصرف من مكانه بدون وقوف فيها ومن لم يقف بعرفة في وقت الوقوف
فلا حج له، فإذا غربت الشمس من اليوم التاسع فسيروا إلى مزدلفة مُلبِّين
وَصَلُّوا بها المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين متى وصلتم إليها إلا أن ينتصف
الليل قبل وصولكم إليها فصلوا قبل منتصف الليل؛ لأن وقت العشاء ينتهي بنصف
الليل، فإذا صليتم الفجر فقفوا عند المشعر الحرام أو في أي مكان من
مزدلفة، واذكروا الله - تعالى - وادعوه حتى تسفروا جداً ثم سيروا إلى منى
ملبين، وابدؤوا بجمرة العقبة وهي الأخيرة التي تلي مكة فارموها بسبع حصيات
متعاقبات تكبرون مع كل حصاة، كل حصاة أكبر من الحمَّص قليلاً تلقطونها من
حيث شئتم، واعلموا - أيها المسلمون - أن الحكمة من هذه الجمار: تمام
التعبد لله، وإقامة ذكره، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فارموها
معظمين لله بقلوبكم وألسنتكم، فإذا رميتم جمرة العقبة فاذبحوا الهدي
واحلقوا رؤوسكم، و المرأة تقصر، فإذا رميتم وحلقتم أو قصرتم فقد حَلَّ لكم
كل شيء من محظورات الإحرام سوى النساء، فالبسوا الثياب وتطيبوا ثم انزلوا
إلى مكة وطوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة وذلك للحج، وبفعل هذه
الأربعة: الرمي، والحلق أو التقصير، والطواف، والسعي تحلون من محظورات
الإحرام كلها حتى النساء . أيها المسلمون، أرجو أن تكونوا فهمتم الآن أن
الحجاج يفعلون يوم العيد خمسة أنساك: الرمي، والنحر، والحلق، والطواف،
والسعي مرتبةً هكذا، فإن قدم الحاج بعضها على بعض فلا حرج؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم - كان يسأل يوم العيد عن التقديم والتأخير فما سئل عن
شيء قدم يومئذٍ ولا أخر إلا قال صلى الله عليه وسلم: « افعل ولا حرج » (7)
، وعلى هذا فلو أن الإنسان رمى ثم حلق قبل أن ينحر فلا بأس، ولو نحر قبل
أن يرمي فلا بأس، ولو طاف قبل أن يرمي فلا بأس، ولو سعى قبل أن يطوف فلا
بأس، ولو أخَّر الطواف والسعي إلى ما بعد العيد فلا بأس، ولو أخَّر الطواف
والسعي إلى وقت خروجه أجزأ ذلك عن طواف الوداع، ثم بيتوا بمنى ليلة الحادي
عشر وليلة الثاني عشر وارموا الجمرات الثلاث في اليومين بعد الزوال،
ابدؤوا برمي الجمرة الصغرى وهي الأولى الشرقية بسبع حصيات متعاقبات تكبرون
مع كل حصاة ثم تقدموا عن الزحام قليلاً واستقبلوا القبلة و ارفعوا أيديكم
وادعوا الله دعاءً طويلاً ثم ارموا الوسطى كذلك وقفوا بعدها للدعاء كما
فعلتم بعد الأولى ثم ارموا جمرة العقبة ولا تقفوا بعده للدعاء هكذا فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإياكم أن ترموا في هذين اليومين قبل
الزوال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرمِ قبل الزوال، ولو كان
الرمي قبل الزوال جائزاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أيسر للأمة
ولكنه أخَّره حتى زالت الشمس وبادر به - أيضاً - قبل أن يصلي الظهر فإنه
رمى بعد الزوال مباشرة وقبل أن يصلي صلاة الظهر وهذا يدل بوضوح على أن
الرمي قبل الزوال حرام ولا يصح ولا يجزئ فاعله، ولكم أن تؤخروا الرمي إلى
الليل؛ لأننا في هذا العهد نجد زحاماً ومشقةً شديدةً في الرمي في النهار،
فالرمي في النهار أفضل بلا شك ولكن مع الزحام والمشقة الشديدة يكون تأخير
الرمي إلى الليل جائزاً بل قد نقول: إنه أفضل؛ لأن الإنسان يرمي وهو متأنٍ
خاشع، أما الذي يرمي في النهار مع هذا الزحام الشديد فإنه يرمي وكأنه قد
خاض غمار الموت لا يكون قلبه مطمئناً ولا مستريحاً ولاسيما إذا كان
الإنسان معه أهله، فالذي ينبغي: أن يكون الإنسان عند رميه مستريحاً
مطمئناً سواء في الليل أو في النهار لكن إذا لم يكن مشقة فلا شك أن النهار
أفضل، وارموا بأنفسكم ولا توكلوا أحداً في الرمي عنكم؛ لأن الرمي من الحج،
وقد قال الله عزَّ وجل: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾
[البقرة:196]؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم - لم يرخص للضعفاء من أهله
أن يوكِّلوا بل أذن لهم أن يدفعوا من مزدلفة قبل الناس؛ ولأنه صلى الله
عليه وسلم لم يرخص للرعاة الذين يغيبون عن منى مع إبلهم أن يوكِّلوا بل
أذن لهم أن يرموا يوماً ويَدَعوا يوماً إلى اليوم الثالث، لكن لو كان
الحاج لا يستطيع الرمي بنفسه كالمريض والكبير العاجز والمرأة الحامل التي
تخشى على نفسها أو على حملها فيجوز التوكيل لهؤلاء لتعذر رميهم بأنفسهم
وحينئذ يرمي الوكيل عن نفسه أولاً ثم عن موكِّله ثانياً ولو في موقف واحد،
ومن سقطت منه حصاة وهو واقف على المرمى فلا بأس أن يأخذ من الحصى الذي
عنده ويرمي به، فإذا رميتم الجمرات الثلاث يوم الثاني عشر فإن شئتم
فانزلوا إلى مكة وإن شئتم فتأخروا لليوم الثالث عشر لترموا الجمرات الثلاث
كما رميتموها في اليومين السابقين وهذا أفضل لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ
تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة:203]؛ ولأن ذلك فعل النبي صلى
الله عليه وسلم، فقد تأخر إلى اليوم الثالث عشر؛ ولأن ذلك أكثر عملاً حيث
يحصل للحاج المبيت والرمي في الثالث عشر، واعلموا أن معنى قوله تعالى:
﴿فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [البقرة:203]، يعني: من تعجَّل في
اليوم الثاني عشر؛ لأن يوم العيد ليس داخلاً في هذه الأيام خلافاً لما
يتوهمه بعض العوام، حيث يعدون يوم العيد من هذه الأيام الثلاثة وليس الأمر
كذلك، فإذا أتممتم أفعال الحج كلها وأردتم السفر إلى بلادكم فلا تخرجوا من
مكة حتى تطوفوا للوداع إلا الحائض والنفساء فإنه لا وداع عليهما لقول ابن
عباس رضي الله عنهما: « أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، يعني: الطواف
إلا أنه خفَّف عن الحائض » (8) ، واحذروا مما يفعله بعض الناس الذين
يقدمون طواف الوداع على رمي الجمرات في آخر يوم، حيث ينزلون في ضحى اليوم
الثاني عشر فيطوفون للوداع ثم يرجعون إلى منى فيرمون الجمرات ثم يغادرون
فمن فعل هذا فإن طوافه للوداع غير صحيح؛ لأنه كان قبل تمام الحج ولم يكن
آخر عهده بالبيت بل كان آخر عهده بالجمرات .
أيها المسلمون، هذه صفة الحج والعمرة سقناها على حسب الإمكان على نحو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوموا - أيها المسلمون - بحجكم وعمرتكم وجميع أعمالكم مخلصين لله متبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتنالوا بذلك محبة الله ومغفرة ذنوبكم، قال الله عزَّ وجل: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:31]، اللهم وفقنا للإخلاص لك واتباع رسولك، اللهم اجعلنا من الهداة المهتدين الصلحاء المصلحين، إنك جواد كريم، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد:
أيها المسلمون، فإن التقرب إلى الله - تعالى - بذبح الأضاحي من أفضل الأعمال المقربة إلى الله، وقد قَرَنَ الله النحر له بالصلاة له فقال تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر:2] وقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:162] فَذَبْحُ الأضاحي قربة إلى الله - تعالى - بنفسه يقصد بها التعبد لله قبل كل شيء؛ ولهذا كان لها حرمات كثيرة .
أيها المسلمون، إن بعض الإخوة الذين يحبون الخير يظنون أن المقصود بالأضاحي هو نفع الفقراء بلحمها؛ ولذلك نجدهم في هذه المناسبة يبثون أوراقاً يحثون الناس على أن يأخذوا منهم الأضاحي ليضحوها في أفغانستان أو في غيرها من البلاد الفقيرة ولا أظن، هؤلاء إلا يريدون الخير ولكنهم أرادوا الخير فاجتهدوا فأخطأوا في اجتهادهم، والذي ينبغي للإنسان الذي يريد الخير أن يجعل إرادته مبنية على قواعد الشريعة حتى لا يَضل ولا يُضل .
إن الدين الإسلامي ليس مبنياً على العاطفة وليس مبنياً على الهوى، قال الله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون:71] .
إن الدين الإسلامي مبني على قواعد عظيمة متينة وهي ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه الدعوى بل هذه الدعاية أنه يحصل بها فوات مقصود كبير في الأضاحي؛ لذلك فإني أنصح إخواني المسلمين ألا يقبلوا هذه الدعاية وألا يبعثوا بدراهمهم ليشترى بها أضاحي في أفغانستان أو في غيرها بل يضحون بأنفسهم في بلادهم، وإذا أرادوا التبرع لهذه البلاد فإن باب التبرع واسع وباب التبرع مفتوح لهم أن يتبرعوا بما شاؤوا، أما الشعائر الدينية فإنه يجب أن تكون محترمة معظمة .
أيها المسلمون، إن نقل الأضاحي إلى خارج البلاد يفوت به مصالح كثيرة، الأولى: أنه يفوت به إظهار شعيرة من شعائر الله وهي الأضاحي فتصبح البلاد معطلة من هذه الشعيرة في بعض البيوت وربما أدى ذلك إلى التوسع فتعطلت كثير من البيوت من هذه الشعيرة، ومن المعلوم أن الأضاحي من شعائر الله، وليس المقصود منها مجرد الانتفاع باللحم، قال الله عزَّ وجل: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾[الحج:37]، وفرَّق النبي- صلى الله عليه وسلم - بين الأضحية واللحم فقال: « من صلَّى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم، فقال رجل: يا رسول الله، نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك شاة لحم » (9) ، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: « من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين » (10) ، فتأمل كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأصاب سنة المسلمين؛ ليتبين لك أن هذه طريقة المسلمين أن يضحوا، وأن الأضاحي شعيرة من شعائر الإسلام، وفي هذه الآية وهذا الحديث دليل واضح على أنه ليس المقصود من الأضاحي مجرد الانتفاع باللحم إذ لو كان الأمر كذلك لم يكن فرق بين المذبوح قبل الصلاة وبعدها، ويدل لذلك - أيضاً - أن الأضحية خُصَّت بنوع معين من البهائم وهي الإبل والبقر والغنم وقُيِّدت بشروط معينة: كبلوغ السن، والسلامة من العيوب وكونها في أيام النحر، ولو كان المقصود مجرد الانتفاع باللحم لأجزأت بكل بهيمة حلال كالدجاج والظباء ولأجزأت بالصغير من الأنعام ولأجزأت بالعضو من البهيمة، فالأضاحي - أيها المسلمون - لها شأن كبير في الإسلام ولهذا جعل لها حرمات، فمن أراد أن يضحي « فإنه لا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئاً » (11) ؛لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، ولو كان المقصود بها مجرد التصدق باللحم لم تكن لها هذه الحرمة؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يتصدق ولو بالملايين من الغنم والإبل والبقر فإنه لا يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته .
إذاً: فالأضحية عبادة مقصودة بذاتها، وإنني أقف عند هذه النقطة لأبين حكم ذلك، فإذا كان الإنسان يريد أن يضحي فإنه لا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته، يعني: جلده شيئاً، وأما أهل البيت المضحى عنهم فإن لهم أن يأخذوا من ذلك ما شاؤوا في الحدود الشرعية ولا ينهون عن الأخذ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى مَنْ يضحي؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي عنه وعن أهل بيته ولم ينقل أنه كان ينهى أهل بيته أن يأخذوا شيئاً من ذلك، الثانية: أعني من المصالح التي تفوت إذا نقلت الأضاحي إلى خارج البلاد مصلحة مباشرة المضحي ذبح أضحيته فإن السنة أن يذبح المضحي أضحيته بنفسه تقرباً إلى الله واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يذبح أضحيته بنفسه، وقد قال أهل العلم: إذا كان المضحي لا يحسن الذبح بنفسه فليحضر الذبح، الثالثة: من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد شعور المضحي بالتعبد لله - تعالى - بالذبح نفسه، فإن الذبح نفسه عبادة عظيمة قَرَنَها الله عزَّ وجل بالصلاة في قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر:2] وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [ الأنعام:162]، فأين التعبد للإنسان الذي أخرج أضحيته عن بلاده ولم يشهدها ولم يباشرها بنفسه ؟ أين التعبد الذي يحصل للقلب إذا كانت أضحيتك تذبح في المشرق أو في المغرب ؟ الرابعة: من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد مصلحة ذكر المضحي اسم الله على أضحيته، وقد أمر الله - عزَّ وجل - بذكر اسمه عليه فقال تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ﴾ [الحج:36] وقال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ [الحج:34]، وفي هذا دليل على أن ذبح الأضحية وذكر اسم الله عليها عبادة مقصودة بذاتها وأنها من توحيد الله وتمام الاستسلام له، وربما كان هذا المقصود أعظم بكثير من مجرد انتفاع الفقير بها، ومن المعلوم أن من نقلها إلى خارج البلاد لم يحصل له هذا الشعور العظيم الذي به تمام التوحيد والاستسلام لله عزَّ وجل، الخامسة: من المصالح التي تفوت بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد مصلحة الأكل من الأضحية، فإن المضحي مأمور بالأكل من أضحيته، إما وجوباً وإما استحباباً على خلاف في ذلك بين العلماء، بل إن الله - عزَّ وجل - قدم الأكل منها على إطعام الفقير فقال الله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج:28] وقال الله تعالى: ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ [الحج:36]، ومن المعلوم أن نقلها إلى خارج البلاد يؤدي إلى عدم الأكل منها فيكون الناقل لها مخالفاً لأمر الله ويكون آثماً على قول من قال بوجوب الأكل منها من أهل العلم، وإذا كانت الأضاحي وصاية فإن نقلها قد يفوت به مصلحة سادسة وهي: مقصود الموصين؛ لأن الموصين لم يكن في بالهم حين أوصوا بالأضاحي إلا أن تتمتع ذريتهم وأقاربهم بهذه الأضاحي وأن يباشروا بأنفسهم تنفيذها، ولم يخطر ببالهم - أبداً - أن أضاحيهم ستنقل إلى بلاد أخرى قريبة أو بعيدة فيكون في نقل أضاحي الوصايا مخالفة لما يظهر من مقصود الموصين، ومع فوات هذه المصالح بنقل الأضاحي إلى خارج البلاد فإن فيه مفسدة قد تكون كبيرة جداً لدى الناظر المتأمل ألا وهي: أن الناس ينظرون إلى العبادات المالية نظرة اقتصادية محضة أو نظرة تعبدية قاصرة بحيث يشعر أنه استفاد منها مجرد الإحسان إلى الغير مع أن الفائدة الكبرى من هذه العبادات المالية هي التعبد لله وابتغاء مرضاته والتقرب إليه، بحيث يشعر الإنسان أنه بهذا الفعل متعبد لله متقرب إليه لا مجرد أنه محسن إلى أخيه ونافع له؛ لأن العبادات المالية المتعدية للغير لها جهتان: جهة تعبدٍ لله تعالى، وجهة إحسانٍ إلى الغير، والجهة الأولى أعظم وأحق بالمراعاة من الجهة الثانية . إذاً: فَنَقْلُ الأضاحي إلى أفغانستان أو إلى غيرها من البلاد المحتاجة تفوت به ست مصالح، تفوت به إظهار شعيرة الأضحية، ويفوت به ذبح المضحي أضحيته بنفسه أو حضوره ذبحها، ويفوت به شعور المضحي بالتعبد لله بالذبح نفسه، ويفوت به ذكر المضحي اسم الله على أضحيته، ويفوت به الأكل من الأضحية الذي قدمه الله على إطعام الفقير وقال بعض العلماء بوجوبه، ويفوت به إن كانت الأضحية وصية ما يظهر من مقصود الموصين، وبالإضافة إلى فوات هذه المصالح يحصل به مفسدة نظر الناس إلى العبادات المالية المتعدية للغير نظرة اقتصادية محضة وهذا بلا شك يخل بجانب التعبد، فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزَّ وجل، وألا نقدم على أمر إلا إذا وزناه بميزان الكتاب والسنة؛ حتى نكون بذلك على بصيرة من الله وعلى بينة وبرهان، وإني أقول أخيراً كما قلت أولاً: لا تبذلوا دراهم لتضحوا في أفغانستان ولا غيرها ولكن ضحوا في بلادكم وعلى مشهد من أهليكم، ضحوا لأنفسكم وضحوا لأهليكم، أما أفغانستان و غيرها من البلاد الأخرى المحتاجة إلى معونتكم فإني أحثكم على معونتهم بقدر ما تستطيعون، فالمعونة شيء والعبادات شيء آخر، والأضحية عبادة لا ينبغي للإنسان أن يخل بها، أسأل الله - تعالى - أن يجعلني وإياكم ممن يعبد الله على بصيرة، وممن يدعو إليه على بصيرة .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، إنك جواد كريم .
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون .
(1) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الحج ( 1650)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في كتاب الحج ( 2403 ) من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ت ط ع .
(2) أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الأذان ( 647 )، وأخرجه مسلم رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة ( 623 ) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. ت ط ع .
(3) أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الصلاة ( 599 )، وأخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ( 948 ) من حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه . ت ط ع .
(مـ) تخريج هذه المقولة انظر إلى كتاب كشف الخفاء الجزء الثاني ص 465 رقم الحديث ( 1480 )، وانظر إلى كتاب تحفة المدنيين في الجزء الأول ص 36 بلفظ وقد قيل وانظر إلى كتاب المستطرف الجزء الثاني ص 84 وانظر إلى معجم المطبوعات الجزء الأول ص 265.
(4) أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الحج ( 1427) من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه مسلم رحمه الله تعالى في كتاب الحج ( 2022 ). ت ط ع .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الحج ( 4699 ) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب الحج ( 2101 ) ت ط ع .
(6) انظر إلى فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر الجزء 2 ص 408 .
(7) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الحج ( 1622)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في كتاب الحج ( 2305 ) من حديث عمر بن عمر بن العاص رضي الله عنه . ت ط ع .
(8) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الحج ( 1636)، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الحج ( 2351 ) من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . ت ط ع .
(9) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة ( 930 ) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في كتاب الأضاحي ( 3625 ) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه . ت ط ع .
(10) أخرجه البخاري في كتاب الأضاحي ( 5130 ) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في كتاب الأضاحي ( 3624 ) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه . ت ط ع . (11) أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي (3653) من حديث أم سلمه رضي الله عنها و ( 3656 ) من حديث أم سلمه رضي الله عنها . ت ط ع .
|