مواصلة لسلسلاتنا في
الإعجاز الأسلوبي في القرآن الكريم، أحببت أن نقف عند قوله تعالى"ولقد
جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل
حنيذ"، حيث أتت كلمة (سلام )الثانية مرفوعة مع وجود فعل القول خلافا لما
أتت عليه الأولى مع نفس الفعل، فما سر الانزياح هاهنا؟ وكيف تعامل معه أهل
اللغة وأهل التفسير؟ إن قولنا بالانزياح يعني ببساطة لماذا لم تأت كلمة " سلام" الثانية منصوبة أيضا؟ أو لماذا لم تأت الأولى مرفوعة كالثانية؟
قال أبو عبيدة:" قالوا
لا يتمكن في النصب وله موضعان:موضع حكاية، وموضع آخر يعمل فيما بعده فينصب
فجاء قوله:(قالوا سلاما) منصوبا، لأن قالوا: عمل فيه النصب، وجاء قوله:
(سلام) مرفوعا على الحكاية ولم يعمل فيه فينصبه"
قال الأخفش:"وهذا فيما
يزعم المفسرون: قالوا خيرا كأنه-والله أعلم- سمع منهم التوحيد، فقد قالوا
خيرا. فلما عرف أنهم موحدون قال:( سلام عليكم) فسلم عليهم، فهذا الوجه رفع
على الابتداء"
قال الفراء:"فأما
السلام فقول يقال فنصب لوقوع الفعل عليه، كأنك قلت كلاما. وأما قوله :(
قال سلام )فإنه جاء في: نحن سلام، وأنتم قوم منكرون.وبعض المفسرين
يقول:يريد سلموا عليه فرد عليهم.فيقول القائل:ألا كان السلام رفعا كله أو
نصبا كله؟قلت السلام على معنيين إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت
معه( عليكم)رفعته.فإن شئت طرحت الاضمار من أحد الحرفين، وأضمرت أحدهما،
وإن شئت رفعتهما معا.وإن شئت نصبتهما جميعا"
قال المبرد:"فإن
المفسرين يقولون في هذا قولين:أعني المنصوب. أما المرفوع فلا اختلاف في أن
معناه-والله أعلم-قولي سلام، وأمري سلام كما قال ( طاعة وقول معروف) وكما
قال(وقالوا مجنون وازدجر) على الحكاية.وأما المنصوب فبإضمار فعل كأنهم
قالوا:سلمنا سلاما.وقال بعضهم:لم يكن هذا هو اللفظ، ولكنه معنى ما
قالوا.فإنما هو بمنزلة قلت حقا"
قال الزجاج:"فأما
قوله(سلاما) فمنصوب على سلمنا سلاما، وأما(سلام) فمرفوع على معنى أمري
سلام. ومن قرأ (سلام) فمرفوع على أمري سلام.أي لست مريدا غير السلامة
والصلح".
تلتقي أقوال النحاة
جميعا، وإن اختلفت التعابير والوسائل عند غاية واحدة وهي تقدير الرافع
للمرفوع والناصب للمنصوب، وما جعل الأمر صعبا هو مجيء الاسم الثاني مرفوعا
بعد نفس الفعل في جملتين متتاليتين، لذلك لجأ جل النحاة إلى المفسرين
لإحساسهم بعدم ما قاله نظام اللغة في الأمر، مما جعل هؤلاء يخرجون
لفظة(سلاما) الأولى من المعنى المعروف فوضعوا مكانها (خيرا) حسب الأخفش،
و(حقا) حسب المبرد، و(كلاما) حسب المبرد بتأثير منهم.
نلاحظ أيضا أن هناك إجماعا على أن (سلام) الثانية مرفوعة بمحذوف، فاختلف تقديره من نحوي لآخر، فقد قيل(أمري)و(قولي) و(عليكم) و(نحن).
مهما كان التبرير
المقدم فإن السؤال لايزال مطروحا لماذا تم الرفع في الثانية دون الأولى؟
لماذا لم يأتيا على هيئة واحدة؟ ما الدلالة التي أرادت الأولى أن تبلغها
والتي تختلف عن الدلالة التي يتطلبها الموقف في الثانية؟
نقول من وجهة نظر
أسلوبية ينبغي لنا أن نفرق بين المتكلم في الأولى وبين المتكلم في
الثانية، وبين حال الأول وحال الثاني: فمن المعروف أن طريقة النطق تسهم
بشكل كبير في تلوين معنى التعبير وفي بعض الأحيان تجنح به نحو النقيض،
وعليه فإن رسم المعنى المتوقف على طريقة النطق يعتمد-في حالة النص
المكتوب- على مهارة القارئ وحذقه، حيث ينبغي له أن لا يقرأ حتى يفهم.
وحينما يكون النص على درجة عالية من الكثافة ويكون حريصا على ضمان ايصال
معناه، فإنه يبدع وسائله الخاصة كما حدث في الآية الكريمة، فلو كان السلام
رفعا كله أو نصبا كله لمر كأي سلام روتيني، لا يختلف معناه الأول عن
الثاني، ولسرى في الظن أن النبي عليه السلام رد السلام بطريقة آلية مكتفيا
بإعادة ما التقطته أذناه، دون أن يعبر الرد ذهنه، كمن لا يأبه أو لا
يبالي. إن الخروج إلى الرفع جاء ليفيد أنه اهتم للسلام غاية الاهتمام
وأوفى أصحابه ما هم جديرون به من العناية والتقدير، فكأن حركة الفتح هنا
ترمز للثقة والاطمئنان، وحركة الضم ترمز للقوة والحرارة، ولعل من أعجب ما
أورده الأخفش قوله:" وقال بعضهم:ما كان من كلام الملائكة فهو نصب وما كان
من الانسان فهو رفع في السلام.وهذا ضعيف ليس بحجة"، نرى أن لهذا القول
دلالة كبيرة، إنه يعكس إحساس صاحبه بأن اللغة المتكلمة ليست عادية، وهذا
الذي أرجعه لكلام الملائكة هو ما يمكن تسميته بالإعجاز الأسلوبي في القرآن
الكريم.
أتركك في رعاية الله، وإلى اللقاء مرة أخرى مع شاهد جديد ضم انزياحا أسلوبيا، والله المستعان.
الموضوع الأصلي :
"قالوا سلاما قال سلام": ما سر الرفع في الثانية؟؟؟ الكاتب :
المدير{ع~المعز}العامالمصدر :
منتديات طموح الجزائرالمدير{ع~المعز}العام : توقيع العضو
|