ومن لطيف الاستعمال الفنيّ للفعل والاسم قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ : غافر.
فاستعمل
مع الليل الفعل (لتسكنوا) ، ومع النهار الاسم (مبصرا) ، ولم يسوِّ بينهما ،
فلم يقل : ساكنا ومبصرا ، ولا لتسكنوا فيه ولتبصروا فيه ، مع أن الاستعمال
الحقيقي هو : لتبصروا فيه .
وذلك
أنه جمع الحقيقة والمجاز في تعبير واحد ، ولو جعلهما في صورة تعبيرية
واحدة لفاتت هذه الميزة الفنيَّة ، فإنه ذكر نعمة الله علينا في الليل فقال
: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرا﴾: يونس.
ولو قال : "هو الذي جعل لكم الليل ساكنا"
لم يكن فيه دلالة نعمة على الخلق من ناحية ولكانت (لكم) هنا زائدة ليس
فيها فائدة ، فهو جاء بـ(لكم) وبالصيغة الفعليَّة للدلالة على قصد النعمة
والتفضيل علينا ، وعلاوة على ذلك لو قال: ( ساكنا )
لم يكن التعبير مجازيا ، لأن الليل يصحُّ أن يوصف بالسكون ، فيقال : ليل
ساكن ، وليل ساجٍ ، فتحويله إلى الصيغة الاسمية ليس فيه فائدة معنويَّة
ولافنيَّة ، ولمَّا تقررت دلالة النعمة في صدر الآية كان العدول إلى
التعبير المجازي يعد ذلك كسبا فنيا .
فعدل من الفعل إلى الاسم ومن الحقيقة إلى المجاز العقلي فقال ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرا﴾
وذلك أن النهار لايبصر بل يبصر مَنْ فيه ، فجمع بين التعبير الحقيقي
والمجازي ودل على المقصد الأول من الآية وهو الدلالة على النعمة بأقرب طريق
فكسب المعنى والفن معا.
ولو قال : لتسكنوا فيه وتبصروا فيه ، لفات التعبير الفني الجميل تعبير المجاز ، ولو قال : ساكنا ومبصرا ، لفاتت الدلالة على النعمة التي هي المقصد الأول من هذه الآية ، ولو قال : ساكنا ولتبصروا فيه ، لفات المجاز في التعبيرين ولكان التعبير سمجا لامعنى تحته كما أوضحنا من قبل .
فانظر
كيفَ دلَّ على المعنى بأسلوب فني جميل من أخسر طريق وأيسره ، فأنت ترى لو
أنه وضع الكلام بأية صورة غير الصورة التي عبَّر بها القرآن ماأدى هذا
المؤدى .
هذا علاوة على ما في جعل النهار مبصرا من جمال وزيادة في المعنى ، فقد أفاده هذا العدول إلى الاسميَّة معنيين:
الأول : أننا نبصر فيه ، كما قيل : ليل نائم ، والمقصود نائم أهله .
المعنى الآخر :
أنه جعله مبصرا أيضا ببصر أعمالنا ويكون شاهدا علينا بالخير والشَّر ،
فكأن له عينين تبصران ، فنحن نبصر فيه وهو يبصر أيضا ، فانظر إلى جمال هذا
التعبير ودقته وروعته