روضة الحنان...
تدور
الأرض و معها تدور عقارب ساعة الأيام...أمر اليوم على عتبة روضة الأطفال
حيث تلوح لي ذكرى طفلة ذات الأربعة أعوام... هناك، أتوقف لحظة و استرجع
ملامح طفولتي المسروقة مني. تلك أيام مضت، ترددت خلالها على ذلك المكان
العالق بذاكرتي رفقة رجل وسيم. طفلة تجر بعض الخطوات كنت أنا حينها... من
بوابة بحجم كبير تعبر البراعم الغضة و في استقبالهم سيدة بشوشة تفيض
عيناها من الحنان ...
تذق
أجراس و تتصاعد صيحات أطفال...يغلق حارس الروضة الباب بإحكام... اقترب
رويدا من ذاك السياج حيث الأشجار تحيط المكان...استرق بعض
النظرات....أطفال بعمر الزهور يركضون إلى ساحة تغطيها الأزهار و على
أطرافها تقوم مدينة الألعاب...مرجوحة....و دراجات بثلاث عجلات...قطار صغير
لا يعرف المحطات...سلة من الدمى تتهافت عليها الفتيات...لكن أين تلك
الفتاة؟
أجوب
بنظرات خاطفة حول المكان...لتسقط عيناي على زاوية يتقاسمها جسمان
صغيران... .فارس صغير بلا جواد بجانبه تجلس تلك الفتاة...لم يكونا يلعبان
بل على رغيف خبز يجتمعان و مرات كانا يتبادلان القضمات على تفاحة حمراء. كان اسمه جلال...معه اكتشفت أني طفلة خجولة بجعبتها أحلام الكبار...كأني لم أكن انتمي لعالم الصغار...
تذكرت
و أنا ابتسم فصلا من فصول الشتاء و الأمطار كانت ترفض التوقف يومها منهمرة
بغزارة من السماء...مظلة واحدة كانت لي و لم يكن لدي الاختيار.... قررت
أن أكون أنا و مظلتي تحت تصرف جلال ...عبرنا كل الطرقات...كنا نمسك سويا
بمظلة صغيرة تتلاعب بنا و بها الرياح ....كانت أول مرة أدخل فيها حيا
شعبيا، دافئة تبدو لي فيه الحياة حيث المنازل تتجاور فيما بينها دون أسوار
و الأبواب مفتوحة على بعضها لا تخفي أسرار...وصلنا إلى منزل جلال و صممت
والدته بلطف أن تستضيفني حتى تهدأ الأمطار...شاركتهم في الطعام و تقاسمت
مع أخواته الألعاب ...عرفني على غرفته الصغيرة ...لم يكن فيها سرير أو
خزانات، سوى رفوف تعتلي الحيطان وملاءات صففت بعضها فوق بعض، تفترش حصيرا
على الأرض... على بساطتها، كانت حقا تشكل لوحة جميلة ...نادتني أخته
الكبرى تخبرني انه علي الذهاب بعدما هدأت العاصفة ...خرجت أمشي كطفلة
بلهاء حين أضعت الطريق و الضوء يشارف على الرحيل...ركضت و أنا أجوب كل
الدروب حتى وجدت المسار ...وصلت متأخرة ذاك المساء...لم أعرف أي غلطة
ارتكبت حتى تراءت لي أمي من بعيد تبكي و تتردد على الشرفات...كان الباب
مفتوحا...دخلت و أنا أعرف أن الليل سيمر علي اليوم طويل...لتمسكني أمي
بذراعيها تضمني و تمسح دموعها على شعري...لتتحول فجأة لمساتها إلى صفعات
موجعة على وجهي...ليحررني والدي بصعوبة منها يحملني إلى غرفتي و ينزع عني
ملابسي المبللة و التي لم اعد اشعر بوجودها على جسمي...كنت خائفة على أمي
فأول مرة أراها بذاك الجنون ...لكني لم اشعر برغبة في البكاء لان يومي كان
جميلا و لا يحتمل النسيان....
أتذكر
حين التحقت أختي التي تصغرني بنفس الروضة...كنت أحب أن يكون برفقتي جلال.
كان منزلي قريبا بالجوار و كنت أتمنى لو تطول معه كل الخطوات...أصل إلى
البيت و أمي تنتظرني على الباب....لتصرخ بوجهي فأتذكر أني نسيت أختي
بالروضة فهي لا تعرف الطريق...فأعود أدراجي لركض و براسي تتردد تعليقات
المربيات....فيوقفني حارس الروضة ليقبلني على وجنتاي و يضربني على راسي
لأنها ليست المرة الأولى التي أنسى فيها أختي بعد نهاية الدوام...بكلمات
ساخرة استلم أختي من المربيات و نعود سويا نغنى و نجر أقدامنا بخطوات
صغيرة إلى الدار....
تدق
الأجراس من جديد...و معها أصحو من غفوتي و أعود من رحلة سافرت خلالها عبر
الزمان...لتقع عيناي على ملائكة صغار يتدافعون و يتسارعون بشوق يعانقون
الآباء و الأمهات...إلا تلك الفتاة لم تكن اليوم من بين الصغيرات...لأنها
اليوم تعيش في عالم الكبار...فقد كبرت لدرجة أن الروضة و ما فيها أصبحت
مجرد ذكريات...حتى جلال لم يكن ضمن الصبيان...فقد غادر الروضة دون وداع،
ليسافر وأهله إلى مكان بعيد...لكني ما زلت اذكر تلك العينين بلون السماء
و ذاك الشعر الذهبي المتناثر حول وجه جميل...يقفل الحارس باب الروضة الصغير و الذي كنت أراه بطفولتي العملاق
الحديدي ...يخيم الصمت على المكان...لأجر قدماي و عيناي تودعان أجمل
الذكريات...أودع رسوما نقشت على الحيطان ...أودع حروفا سأظل اقرأها حتى لو بعثرتها السنين و الطبيعة.... روضة الحنان ...
الموضوع الأصلي :
روضة الحنان .... الكاتب :
المدير{ع~المعز}العامالمصدر :
منتديات طموح الجزائرالمدير{ع~المعز}العام : توقيع العضو
|