أبو التوت
ـ يضيء عارف الشمعة ليستهل الحكاية فيقول:
أبو التوت طبيب شعبي غير مرخص للحارة. يحلق ويقلع أضراس، ويعالج
بالأعشاب والعلق وكاسات الحجامة، ويجبر العظام في دكان صغيرة تزدحم أبداً
بزبائن من الحي. صدر واسع تغطيه ذقن بيضاء كالمخلاة. بعينين مكحلتين..
طاعن في السن، لكن في نظراته ووجهه حيوية الشباب في أيامها الأخيرة. مزواج
إلاَّ أنه لا يتزوج إلا الصبايا الصغيرات.. منذ ستة أشهر تزوج زينب صبية
طرية العود بنت أربعة عشر. يستحم في النهر يومياً، ويداوم على صلاة الفجر
في المسجد. جسده لا يعرف تقلب الفصول، وله روح الساحر ونظراته الساطعة.
قال أبو التوت لعارف وهو يمسك ذارعه: بتضل صاحب مشاكل؟! ما لك عندي
دواء. الأفضل أن تذهب إلى المجبر في بستان السيروان، فهو مجبر شاطر. وأضمن
أن يعيد كوعك إلى مكانه ويجلّس خلقتك.
ثم أردف: لا تسبح أنت ورفقاؤك في الاتجاه المعاكس للنهر لتستكشفوا أخبارنا وسترنا. فإن فعلتم سأجعل النهر يبتلعكم جميعاً.
يقع بيت أبو التوت على مدخل ساحة العسكرية على طرف النهر، وله باب واسع، وشبابيك على مجراه..
يسبح عارف وأترابه بعكس التيار ليصلوا إليها ويكتشفوا من خلالها زينب عروسه الجميلة!!
كلما يصادفهم يفعلون ذلك يرجمهم بالحجارة والشتائم فيفرون كالغزلان المذعورة من الصياد دون أن يتمكن منهم.
إلا أن ذلك لم يمنعهم أن يعاودوا الكرّة كلما سنحت لهم فرصة، وازداد
القيظ، وامتلأت بطونهم من فواكه الصيف ورموا أنفسهم في أحضان النهر.
يظن عارف أن أبا التوت يرفض أن يدوايه لأنه رصده مرة يسبح في اتجاه داره على النهر لينكشف ما وراءه؟!
يقول عارف لأمه: ما لقيت غير أبو التوت؟!!
فتقول: اسكت. خليك بمصيبتك قبل أن أكسر لك الذراع الأخرى؟!! ويومئ أبو التوت بالرضى.
فتذهب به أمه إلى المجبر. يتلمس يده وذراعه وكوعه متفحّصاً ويقول: عمر
الشقي بقي. اشكر ربك بسيطة!! يلاطف المجبر عارف فيرتاح إليه. يشغله
بالحديث ويقوم بعمليته البارعة فجأة يشد ذراعه شدة كادت تزهق روحه، وشيء
ما يطق من عظمه. فيعيد المجبر بهذه الحركة كوعه إلى محله.
أخذ الورم يفش والألم يتلاشى شيئاً فشيئاً. وتنفرج أسارير عارف عن
هيئته الأولى. ويدرك بعد وهلة أنه ظلم "أبو التوت" ويعرف أنه أثم حين ظن
به الظنون، وأن أبا التوت لم يعرف عنه وعن زينب شيئاً. ينصرف هو وأمه إلى
الدار ويندس في الفراش ويغط في نوم عميق. وكما في الحلم: يبصر أبو التوت
يأكله بعينين متفجرتين. ينفذان إلى قلبه من سواد الكحل، وفي يديه يحمل
قطرميزاً تضطرب فيه علقات سوداء في ماء عكر. وهو يقول: دعني أخرج الدم
الفاسد من عروقك يا عارف. دعني أستخرج بالعلق دمك الأسود وأنقيك من
الشر؟!
ينفض عارف رأسه نفضة مباغتة كي يتخلص من الصورة. أدرك أنها في جزء
منها من صنع المخيلة، إلا أنها في جزئها الثاني من وحي الحقيقة. كان أكثر
من يجذبه في دكان أبو التوت قطرميزات العلق، والطب بالعلق، كالطب
بالحجامة. والطب بالأعشاب علم حق، لا شعوذة فيه ولا سحر. إنه حصيلة
التجربة، لكن عارف وقع ضحية ما أخبر به مراراً من أن العلق يمص دمك حتى
الموت، إنه نزيف خفي لا تشعر به، يقربك إلى عتبة العالم الآخر.
يذكر أبو التوت حين رآه للمرة الأولى، كان يعالج مريضاً بالعلق يشكو
من وجع في ظهره، حتى إنه يكاد ينحني وهو يمشي. وبعد أن فحص أبو التوت
المريض أمسك بقطرميز يحوي عدداً من العلق. فتح غطاء القطرميز، والتقط منه
علقة علقة بملقط صغير بعد أن عرّى المريض من سترّته وما فوق، وأخذ يلصق
العلقات على ظهره. لم يرَ عارف دماً، ولا رأى نزيفاً، لكن العلق كان يتموج
كحلقات تتسع، يتصل بعضها ببعض، تتضخم وتسمن وهي تمتص وجبتها من الدم من
ظهر المريض. وحين انتهى أبو التوت منه نهض شفياً معافى كأنما تطبب
بالليزر!!.
ويتساءل عارف: هل أبو التوت ضحيتنا؟! أم نحن ضحيته؟!
موقع بيته على مدخل الساحة جعله كأنه حاميها، ولأنها كانت مرتع ومسرح
لهو للفتيان، كانوا ينظرون إليه نظرة عدوانية كأنما جاء يسرق منهم زمن
الطفولة!!
وزينب التي تزوجها. أي واحد منهم كان أحق بها. لماذا تتزوج الصبية
الشيخ؟ لماذا لا تتزوج زينب فتى يقاربها في العمر؟ يا الله ما أحلاها
حينما كانت تلعب معهم لعبة العريس والعروس في مسرح مرتجل.
طبعاً الشرع في صف أبي التوت. ما من مانع يحول بينه وبين الزواج
بالعروس البكر الصغيرة. أما هم فالحياة الدافقة في عروقهم تحدوهم وتدفعهم
لكي يسبحوا في الاتجاه المعاكس من النهر لكي يكتشفوا العروس التي سلبها
منهم الشيخ بحنكته وماله.
ما يزال عارف يذكر العلق المضطرب في ماء القطرميزات على رفوف دكانه..
وكان قد خبر العلق من قبل مرة واحدة حينما كان هو وحميد وسعدو وراشد
يغسلون أرجلهم في ماء بركة نصف راكدة في طريق "عين الكرش" القديمة عبر
الحقول.
تلتصق ببطة رجله علقة دبقة، فيصرح ويحاول حميد أن يزيلها عن لحمه دون
جدوى، وسعدو ينتحي جانباً يكاد يموت من الضحك، وعارف يصرخ من الرعب ويقول:
يا ابن الـ.. ساعدني وما من مجيب.
يخلصه حميد من العلق. يبصق على سعدو. فيسحب شبرية ذات رأس حادة،
ويدفعها إليه ويقول: إن كنت قبضاي دافع عن نفسك!! فيجيبه عارف: اخجل من
نفسك!! إلاَّ أن سعدو كان جاداً، واخذ يبرم في ساحة العسكرية، وعارف
يتفاداه.
حميد يحاول أن يفصل بينهما.. وبينما هما يدوران ويبرمان الواحد حول
الآخر ينقر سعدو زند عارف اليمنى نقرة سريعة بشبرية أخرى يسحبها من خصره.
فينفر الدم نفرة ساخنة.
يأخذ حميد الشبرية من عارف ويهجم على سعدو الذي ينطلق ويولي هارباً باتجاه الحقول.
يأخذ حميد عارفاً إلى أبو التوت، فينظر إلى الجرح ويقول: "سليمة" يفتح
درجاً من دروجه الكثيرةن ويسحب خيطاً أبيضاً رفيعاً خاصاً لتقطيب الجروح.
يشكّه بإبرة طويلة بحجم المسلة متمتماً: لابدّ من تقطيب الجرح، وإلا
لعمّل، وكانت العاقبة وخيمة.
قال عارف: هكذا دون أن تبنجني أو تبنج موضع الجرح..؟ قال: البنج
للفرنج أو للخلنج، ويعني الأكابر، أما أنت فما عندك؟! "يا ناموس يا فلوس"
وأنت هل عندك واحد من هذين؟ لولا خاطر أمك الحجة لطردتك من الدكان. وحين
تذكر أمه رضي بالواقع.
يقطّب أبو التوت الجرح على الحاف أي دون بنج قائلاً له: كزّ على
أسنانك واستحضر روحاً تتحمل الشك، ويقطب جرحه ست قطب بخيوطه المصيصية دون
تظهير.
قال لـه أبو التوت بعد أن قطّب الجرح: إياك أن تسبح في النهر قبل أن يشفى الجرح ويندمل، وإلا لعمّل ودوّد.
وأخذ عارف تحذيره على محمل الجد، يكفي أن يرصع زنده جرح أحمر، أما أن
يغلي فيه الدود وينزّ منه العمل والصديد فإنه يرهب ذلك رهبة شديدة.
زينب ملك أبو التوت، والنهر لم يعد حلماً مفتوحاً يقوده إلى زينب.
فتبع نصيحة أبي التوت. وفي صباح اليوم التالي التقى بحميد وسعدو في ساحة
العسكرية. فقال سعدو يعتذر منه: لم أقصد أن أؤذيك، كنا نلعب كالعادة، رأس
الشبرية حاد كالبرق. ازرعها بذقني هذه المرة. كثيراً ما تحدث أشياء كهذه
بين الأصدقاء.. لكنه لم يعبأ به. وظل حذراً في مراوغته. أما حميد فكان
أكثر سياسة منه، لكنه يعرف سريرة سعدو ككف مفتوحة؟!
فقالت سيدة الفنتازيا مخاطبةً عارف: يبدو أن سعدو كان لصيقاً بك، ومع ذلك كان مؤذياً وما يزال كذلك في الذاكرة.
فقال عارف: عندما كنا فتياناً كنا قريبين من الطبيعة فكان سعدو يتصرف
بمسلكية تمزج الفروسية باللؤم. ولكنه عندما كبر كبرَ أذاه. انظري إلى
نموذج منه عندما نضيء الشمعة الخامسة وغيرها:
سوف تسمعين عنه المزيد في رواية "النمر والبئر" و"الشيخ ومغارة الدم".
يحالف الشيطان ليكسب الفتاة. كبرنا جميعاً. لكننا حصّلنا مهارات وكفاءات
لم يحصل منها شيئاً لذلك نمت فيه الخديعة، ليعوض النقص، وحين عدت من
المنفى زارني أهل الحي في الزينبية وبينهم سعدو وهو يعمل حارساً في مؤسسة
الهاتف الآلي. لم يعبر عن شوق أو محبة بعد غياب اكثر من ربع قرن قبلني
قبلة يوحناس الذي سلم المسيح وبادرني سائلاً: كيف اشتريت شهادة الدكتوراه
من أمريكا؟
لأنه ما يزال جزءاً من البحيرة الراكدة التي لا تتحرك وغيره قطع
المسافات سعياً في مناكبها. تعرض للخطر والموت بينما ظل هو آمناً يضيف
خديعة إلى خديعة ومؤامرة إلى مؤامرة. والناس لا يهمسون في الحي بل يفصحون
نهاراً جهاراً عنه وعن عمه الذي يعمل مخبراً. يحاضر في الشرف كزانية تلبس
ثوب العفة.
فقالت سيدة الفنتازيا: لم أقصد أن أفتح هذا الجرح لكنها خبرات الطفولة
لا تنسى أبداً. والعيون التي تنظر ولا تبصر، ترى الحياة أمر عادياً وهي
تضطرب بالنار من الداخل. فقال: لكني لأعدل سعدو نموذج إنساني يجنح إلى
الشر. وقد قابلت سعدو لا في دمشق بل في أغلب الأمكنة التي هُجّرت إليها
ونفيت. لكن سعدو هنا هو التعبير المحلي عن سعدو كل مكان في عالم يولد فيه
الخير والشر من رحم واحد. ويتعانقان حملاً وولادة ولا يفترقان. سعدو علقة
كبيرة تسير على قدمين.
الموضوع الأصلي :
╝◄روايــــــ{ أبو التوت }ــــــة►╚ الكاتب :
المدير{ع~المعز}العامالمصدر :
منتديات طموح الجزائرالمدير{ع~المعز}العام : توقيع العضو
|