بسم الله الرحمن الرحيم
الحب الكبير.. قصة من أجزاء
1 الخطأ العظيم
توقف للحظة عن التشريط بعوده اليابس، ليختلس نظرة شغوفة، محتشمة، ناحية الجالسة يساره، قبل أن يشيح عنها، ويعاود
التشريط على التراب الأحمر،محدثا خطوطا شبه دائرية حول نبات الشوك البري، وعقله يستعيد صورة واضحة لها، بملامحها
البدوية الجميلة، بعينيها الواسعتين السوداوين كليل بلا نجوم،وفمها الصغير الذي ينتهي بشفتين ممتلئتين، شقت إحداهما
بقساوة الطبيعة، وبأنفها الدقيق، ووجنتيها الحمراوين كفاكهة رمان طازجة، وقد زادتا احمرارا بسبب خجلها المستمر و...
توقف ذهنه عن استعادة تفاصيل ملامحها ،وجاهد نفسه ليبقيها على وقارها، وهو يسمعها تهمس له في صوت حنون لا يكاد يسمع:
- بعد إذنك .. سأنصرف ..سيدي سعيد..
انفطر قلبه ، وكاد غاز الكربون الذي تخرجه رئتاه يخنق خيشومه، وحاول أن يخرج صوته ناهيا إياها عن المناداة له بالسيد،
لكن ما إن التقت عيناه بعينيها حتى بح صوته، وتلعثم ،ليقول لها في الأخير مترجيا:
- ابقي معي للحظات لو تفضلت، ففراقك لا أكاد أطيقه..
ذابت بنظرتها في عينيه على غير عادتها، وهي تقول:
- ولا أنا .. لكن هي سنة الحياة كما تعلم.. فدوام الحال من المحال.. لكن كما سنفترق الآن سيكون اللقاء غدا إن شاء الله..
حاول أن يجادلها ليثنيها عن الذهاب ، لكنه تنبه إلى أنه قد تجاوز ما هو مسموح به، فاكتفى برفع كفيه علامة الموافقة، وهو
يحاول السيطرة على مشاعره، وغض البصر عنها، لكنه ورغما عنه رفع نظره ناحيتها وهي تقف مبتعدة، نافضة التراب
عن ملابسها، ففغر فاه وهو ينظر قدها الفارع، ومشيتها القاتلة، وهي في لباس من قطعتين، ينتهي حد الركبة، وسروال
زهري اللون يسترها حتى كعبيها، ولم يتمالك نفسه فصاح فيها قائلا:
- سعيدة.. لحظة من فضلك..
توقفت مستديرة اليه في دهشة خجلة، وهي تراه يقترب ويقترب و..
وفي رمشة عين مال بوجهه كله عليها، وأتى بحركة غريبة مفاجئة، جعل أحاسيسها تتخدر، كأنها في إحدى طقوس التنويم
المغناطيسي، على لوح خشبي تميل به أمواج هادئة، وصوت موسيقى ينبعث من اللا شيئ، قبل أن تندفع موجة عاتية أخرجتها
من حالة اللا وعي تلك، فتنبهت لهول ما حدث، فأشاحت بوجهها عنه هاربة، وهي تجهش في بكاء حار..
بكاء سيفقدها بريق عينيها، ويغرقها في ظلام دامس..
ظلام لا يعلم إلا الله متى ينجلي..
*********
2: الطعنة المميتة..
في مساء ذلك اليوم بدا سعيد على غير مسماه ،كئيبا، واجما، غائبا بذهنه عن الحسيات، حتى أنه لم ينتبه لصوت أمه وهي تكرر النداء:
- بني.. إنك لم تأكل شيئا منذ الصباح الباكر، وقد وضعت لك الطعام وكل مرة أعيد تسخينه لأجده على حاله لم يمس.. فما الذي أصابك بني؟
انتبه من جموده منتفضا في عنف، فصاح في أمه سائلا:
- أمي ..كيف التقيت بأبي أول مرة؟
أربكها السؤال فقالت متلعثمة:
- ما ذا؟ ما لذي ترمي إليه بسؤالك؟
سألها في اهتمام:
- أعني كيف جاء زواج أبي بك؟
تملكتها الدهشة، والحرج ،وقد استغربت اندفاعه غير المسبوق، وهي تقول:
- بني.. هذا موضوع أكبر منك.. ووحدها السنون من ستجيبك عليه.. اهتم الآن لصحتك، فالشحوب باد على وجهك..
أنت هنا في عطلة الصيف لتستمتع بمناظر القرية الخلابة، بمائها العذب، وهوائها النقي ،وطعامها الصحي، بعيدا عن ضجيج وصخب المدينة..
فأسعد نفسك بما هو أمامك، ولا تحاول أبدا الخوض في تفاصيل أكبر منك..
لم يبد أنه اقتنع بمنطق والدته فهم بمجادلتها، لو لا أن سمع نحنحة الأب مقبلا، فانسحب تاركا أمه تشرك حيرتها تلك أباه..
************
جلس كعادته في ذات الموقع منتظرا إياها.. بعوده اليابس راح يشكل خطوطا غير منتظمة على التراب الأحمر..
انتظر.. طال انتظاره..
ولأول مرة بدأ اليأس يتسرب إليه. فهي لم تتأخر سابقا عن الموعد ولو لثانية واحدة، والآن نصف ساعة مضت وهي لم تظهر بعد..
لعل الموضوع متعلق بما حدث صباح اليوم الفائت.. أيكون هو ذاك السبب فعلا رغم عفوية وبراءة فعلته؟!!
لا يعتقد هذا.. بل يكاد يجزم أن حبها له أكبر من تلك الأفعال، وهو حتى هذه اللحظة لا يعتقد أنه أتى حراما .. ففعله ذاك طبيعي الحدوث
بين حبين كبيرين طاهرين. فأين العيب في أن يتماس جزءان من جسميهما، وقد انصهر قلباهما في جوف واحد من قبل يغذي
أحاسيسهما بمشاعر نبيلة واحدة..
أيعقل بعد هذا أن تكون قد جافته بسبب فعله ذاك!!
إن كانت خلاصته الأخيرة صحيحة فالويل له إذا..
توقف فجأة عن التفكير، وقد تهللت أساريره، وصعد إليها الدم من جديد، وهو يلمحها من بعيد مقبلة فاستبشر خيرا، وإن لم يتمكن
ذهنه من استنتاج تفاصيل ما تعيشه الآن، وهي تقدم خطوة وتأخر خطوة، وهي في صراع مرير مع مشاعرها المتناقضة..
أتسمع لنداء قلبها، وتسرع الخطى ناحية سيدها ،وحبيبها، وترتمي على يده طالبة الصفح!!..
أم تسمع لنداء عقلها وكرامتها الذين يهولان، بل ويجرمان فعلته تلك!!..
عاد قلبها يستعيد تلك اللحظات بأحاسيس بلغت حد الكمال، وشخصه يدنو منها برفق، وحنو، ويطبع على جبينها قبلة لطيفة،
أججت نارها الهادئة، وغمرت كامل جسدها في نشوة لم تسبق أن عرفت لها مثيلا، وهي تكاد تفقد وعيها بين يده، وتذوب في أحضانه،
لو لا أن تردد صدى نداء عقلي أزلي، أفاقها من لحظتها تلك، ونبهها لخطورة ذلك المنزلق الخطير الذي تهوي فه، فيسقط الجدار الذي
بنته ليوقف دموعها فتتدفق أنهارا ،وتغشى ما تبقى من بريق عينيها من جديد، وهي تعود أدراجها تاركة حبيبها، يتلقى طعنة قاتلة..
ومميتة..
********************
انتهى الجزء الثاني بحمد الله..
ويليه الجزء الثالث بمشيئة الله: الصدمة..
مناشدة: أناشد القائمين على هذا المنتدى ألا ينقلوا موضوعي لمنتدى الروايات، وكوني أيضا أعتمد في طلبي هذا على قانون خاص
كان وضعه أحدهم هنا قديما يقضي بالسماح لقصة قصيرة نسبيا في البقاء بمنتدى القصص، على ألا يتجاوز عدد أجزائها خمس فقرات..
والشكر لكم.
* من قصصي بالمنتدى:
- ثورة باقي الأمم.. لعلها قصة..
الموضوع الأصلي :
لحب الكبير.. ج.2: الطعنة المميتة.. الكاتب :
عبد النورالمصدر :
منتديات طموح الجزائر