من أعظم منافع الحج التعارف وبناء العلاقات النافعة التي تعدّ من أسرار
النجاح في الحياة.. وقلّ من يكتشفها ويطبقها بطريقة صحيحة.. يجتمع الحجاج
على اختلاف بينهم في اللسان والألوان والأوطان والأعراق في مكان وزمان
واحد، بمظهر واحد وهتاف واحد، لهدف واحد، فتتعمق بذلك المحبة بينهم على
اختلاف في مستوياتهم وأسلوب حياتهم، فيكون ذلك دافعاً لهم إلى التعارف
والتعاون والتفكير والتناصح وتبادل الخبرات والتجارب، والمزيد من التعاضد
ليكونوا صفاً واحداً في مواجهة التحديات على اختلاف مظاهرها وأساليبها.
ولنحاول أن نتحدث عن الأمر ببساطة وبمنطقية: إذا تعرفت خلال حياتك
الدراسية على عدد من الزملاء والمدرسين.. أنت تتيح لنفسك فرصاً مستقبلية
بنفس العدد، وإذا تعرفت على عدد من المختصين في قضايا المال أو الشريعة أو
الطب أو المقاولات فأنت لن تتعب حين تحتاج إلى استشارة سريعة أو معلومة
عاجلة، وإذا تعرّفت على شخصٍ من بلد آخر ستجد من السهل عليك اختصار طريق
المعلومة إذا أردت السفر أو العمل أو السياحة أو العلاج أو غير ذلك..
وهكذا في كل شأن من شؤون الحياة علاقاتك تساعدك في الوصول إلى هدفك.
هذه المنفعة العظيمة تتحقق في الحج.. فالله سبحانه وتعالى جعل الحج
لعباده مؤتمراً عالمياً سنوياً.. تلتقي فيه جميع الأجناس على مستوى واحد،
وفي أماكن متعددة من شعائر الله.. يلتقي الكبير والصغير، والغني والفقير،
حول الكعبة وحول زمزم أو في المسعى بين الصفا والمروة أو في سائر الأسواق
والمنازل، أو أثناء التنقلات بين مشاعر منى وعرفات، أو في المخيم خلال
أيام التشريق، أو في مسجد الخيف أو غيره.. كل هذه تسهم في الالتقاء
والتعارف ورؤية الآخرين ومعرفة أحوالهم.. وفتح آفاق التعاون المثمر في شتى
مجالات الحياة.. فالتعارف يسهل تبادل المعلومات.. ويدعم الإعلام.. ويعطي
المرء فرصة لمعرفة الأحداث.. ومعرفة موقعه الحقيقي على خريطة العالم..
التعارف يمنحك فرصة التشاور وتنسيق الخطط وتوحيد الأهداف، وتبادل
المنافع والسلع والتجارب، وتنظيم المشاريع النوعية مرة كل عام في أنسب
مكان وأنسب زمان..
لقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موسم الحج، مبادئ الإسلام
وتعاليمه من خلال خطبة الحج، إضافة إلى قرارات مهمة تمس علاقات الدولة
الإسلامية بغيرها، وقد اجتمع حوله مئة وخمسة وعشرون ألفاً من الصحابة،
فقام خطيباً وأطلق أول إعلان عام لحقوق الإنسان عرفته البشرية، أعلن فيه
المساواة والعدل وحرمة الدماء والأموال وحقوق النساء، ووضع دماء الجاهلية
وأموالها الربوية.
عندما تتعرف على الآخرين.. تستطيع فعل أفضل مما فعلوه.. فبناء العلاقات
يعني أن يبحث الفرد عن الأفضل ليستفيد منه.. كما يعني أن يقدم هو للآخرين
أفضل ما لديه من علم وخبرة ونشاط.. ولا يهمل نفسه في كم المشاغل والعلاقات
فلا يتعلم الجديد ولا يتعلم الفردية.
بناء العلاقات الفردية والجماعية مع الآخرين خلال هذا الموسم وخاصة من
الذين يشتركون في دائرة العمل والتخصص المشترك تساعد على تعدد الأساليب..
وإثارة التنافس.. والسعي للوصول إلى مستويات أكبر من النجاح.
الحج يعلمنا أن نختار أفضل الناس لنكون على علاقة بهم تنفعنا في أمور
دنيانا وآخرتنا.. لأن المرء يُعرف بأقرانه، ويتأثر بهم إيجاباً وسلباً..
في حديث للنبي عليه السلام قال :"لولا ما مسّ الحجر مِن أنجاس الجاهلية،
ما مسّه ذو عاهة إلا شُفي وما على الأرض شيء من الجنة غيره" صححه
الألباني.. إذن فهذا الحديث يعطينا تأكيداً أن الحجر قد تغيرّت خصائصه وهو
جماد وبعض الناس لا يخاف أن يتغير وهو يخالط البعيدين عن مستواه.
هذه العلاقات العامة والخاصة التي يتيحها لنا الحج.. يمكن أن تبنى
عليها عديد من الثمار ومن أبرزها المنافع التجارية.. حيث إن الشرع قد حثنا
على طلب الرزق والتكسب والتجارة.. وهذا ظاهر جداً في موسم الحج.. وتتحقق
منه فوائد كثيرة بالعلاقات التي تبنى من خلاله. كانت عكاظ ومجنة وذو
المجاز أسواقاً في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها -
في مواسم الحج - فأنزل الله: }لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ{البقرة: 198 رواه البخاري. ولذا فمن منافع الحجّ
التي يجهلها البعض دعوته المباشرة وغير المباشرة إلى التكسب بالحلال
وممارسة العمل التجاري.
كيف يدعونا الحج إلى التكسب والتجارة؟ إن موسم الحج عبادة بدنية وعبادة
مالية.. نبدأ من شرط الحج الاستطاعة وهو القدرة على توفير تكاليف السفر أي
الزاد والراحلة وتكلفة الهدي أو الأضحية وما يصلح لمثله ويبقى مع أهله..
كيف يكون لك استطاعة وزاد وراحلة إذا لم يكن لديك عمل تكسب منه ما يكفيك
ويفيض عن حاجتك لتصل إلى أداء حجك؟.. وهذا الكسب يجب أن يكون حلالاً
خالصاً.. وبعيداً عن الدّين وحقوق الآخرين. لقد ارتبطت منفعة المتاجرة في
الحج بالكثير من فرص الاستثمار التي يتيحها هذا الموسم.. وهذا عنوان
منفعتنا القادمة بتوفيق الله.