أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـات بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا .
أهمية البلاغة في فهم النصوص والوقوف على أغراضها قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ][/سورة الزمر. ليس من له حظ من البلاغة كمن لم يحظ منها بنصيب، في فهم بليغ القول وتذوق فصيح الكلام، ومن حباه الله تعالى نعمة التذوق البلاغي ليس كمن كان ذوقه كزا ً(1) جاسيا(2) وطبعه البلاغي غليظا جافيا(3)، فالبلاغة لا بد لها من أساسين؛ العلم والذوق. يقول صاحب (الإيضاح): البلاغة في الكلام "مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته... فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب"(4) ويوضح أستاذنا الدكتور فضل عباس ذلك فيقول: " البلاغة" إذن تقوم على دعائم : أولها: اختيار اللفظة. وثانيها: حسن التركيب وصحته. وثالثها:اختيار الأسلوب الذي يصلح للمخاطبين، مع حسن ابتداء، وحسن انتهاء. وبقدر ما يتهيأ من هذه الدعائم، يكون الكلام مؤثراً في النفوس، والتأثير هو الدعامة الرابعة من دعائم البلاغة. البلاغة إذن لابد فيها من ذوق وذكاء، بحيث يدرك المتكلم متى يتكلم، ومتى ينتهي، وما هي القوالب التي تصبُّ فيها المعاني التي رتبها في نفسه، فربَّ كلام يكون جميلاً في نفسه، لكنه لم تُراع فيه هذه الظروف، فتكون نتائجه عكسية غير متوقعة.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما(5): (خمس لهن أحب إليّ من الدّهم الموقفة -أي: الخيل العربية الأصيلة- لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه فضل، ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً، فربّ متكلم تكلم فيما يعنيه، فوضعه في غير موضعه، فعيب).(6)
فالبليغ لا غنى له عن خصلتين؛ خصلة موهوبة وخصلة مكتسبة؛ أما الخصلة الموهوبة فهي؛ رقة في الطبع، ورهافة في الحس، وسمو في الذوق، وسعة في الخيال، وذكاء في العقل، وحضور في القلب، مع امتلاك العين المبصرة النافذة الناقدة، والأذن الواعية، مرهفة السمع، العاشقة جمال اللفظ وعذوبة الجرس وروعة الإيقاع. كما قال بشار: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
هذه الخصلة من شأنها تمكين صاحبها من مراعاة أحوال الخطاب، وتخيّر المقال المناسب لكل مقام،من حيث ما ينسجم مع الحال من ظروف نفسية واجتماعية وبيئية وغيرها، هذا من ناحية، ومن حيث اختيار ما يناسب هذه الظروف من معان منظومة في عبارات،واختيار ما تبنى منه العبارات من ألفاظ،تتناغم مع المقام وتصوره على خير ما يرام من ناحية أخرى .
" والإحساس اللغوي عند الأديب هو الذي يختار اللفظ اختياراً دقيقاً، بحيث يؤدي المعنى، على وجه لا لبس فيه ولا اضطراب، وهو لذلك يلحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات ويأخذ من بينها أمسها بمعناه، حتى تقوم بواجبها من التوصيل الصادق. سمع ابن هَرْمَة(150هـ) أديباً ينشد قوله: بالله ربك إن دخلت فقل لها هذا ابن هَرْمَة قائماً بالباب
فقال له: لم أقل قائماً،أكنتُ أتصدق؟ فقال: قاعداً فقال: أكنتُ أبول؟ قال: فماذا؟ قال: واقفاً وليتك علمت ما بين هذين، من قدر اللفظ والمعنى.
بل إن الإحساس اللغوي، يرهف ويدق، فيختار من الكلمات ما يكون بين أصواتها وبين الموضوع ملاءمة، بحيث يكون فيها تقليد للشيء الموصوف، حتى كأنه يوحَى به إلى الخاطر، كما تحس بذلك في كلمة " تفاوح" في قول المتنبي(354هـ): إذا سارت الأحداج فوق نباته تفاوح مســك الغانيات ورنده
فهي تدل بصيغتها، على هذه الموجات النسيمية، وتحمل في أردانها عبق المسك والرند. وكلمة صليل في قوله: وأمواه تصـل بهـا حصاها صليل الحَلْي في أيدي الغواني فهي تسمعك وسوسة المياه تداعب حصاها..
وبعض ألفاظ اللغة، أسلس على اللسان، وأجمل وقعاً على الأُذن من بعض، وهو جمال ظاهري، يساعد الأديب على إيصال تجربته، وعلماء البلاغة يذكرون من صفات الألفاظ المفردة ما يصح أن تلتمسه هناك.
وفضلاً عما للكلمات من خصائص يدركها إحساس الأديب، كذلك النظم في العبارة الأدبية، يحمل معنى أكثر مما تؤديه الجملة بجريها على النحو، فإن هناك قوى يبثها المؤلف فيها، عن غير عمد حيناً وعن عمد حيناً آخر، فنجده يقدم ويؤخر، ويذكر ويحذف، ويصل ويفصل، ويأتي ببعض ألوان المعارف دون بعض، وحيناً يدع المعرفة إلى النكرة، وآنا يستخدم أداة من أدوات الطلب مكان أخرى، أو يأتي بزخرفة في مكانها، وقد وصل علماء البلاغة إلى إدراك كثير من هذه الأسرار، فعقدوا علما يتحدث عن خصائص الجملة ودعَوْه علم المعاني، وعلما للخيال الذي يعقد الصلة بين الأشياء ودعَوْه علم البيان، وآخر لبعض ألوان الجمال، وسموه علم البديع.
ولكن خصائص النظم، لا تقف عند حد الجملة، بل إن للأساليب خصائص، فمنها ما يناسب الانفعال السريع، والحركة المتوثبة،ومنها ما يناسب العاطفة الهادئة، والحركة البطيئة، وقد يدفع الإحساس الفني الأديب، إلى انسجام في النظم وموسيقى لفظية، تساعد على الإيحاء، وإن هذا الانسجام وهذه الموسيقى يصلان إلى الذروة في فن الشعر، وبذلك يستطيع الأديب أن يصل إلى أسمى درجات التأثير".(10)
كل ذلك يملكه من حباه الله تعالى الذوق والحس البلاغي ،ويحرم منه من لم يرزقه الله هذه الموهبة الفطرية، فهو لا يفرق بين حَسَن وقبيح، ولا تألق عنده ليميز بين ركيك وفصيح، وفاقد هذه الموهبة قد لا ينفع معه بذل كل جهد لاكتسابها،إذ هي فطرية طبيعية تختلف قدرات الناس واستعداداتهم تجاهها، والصفة الخِلْقية التي هي طبع وسجية لا تكلف فيها، ليست كالصفة التي يحاول صاحبها اصطناعها وتكلُّفَها، كما يقول المتنبي: فإنَّ حلمك حلمٌ لا تَكَلَّفُــهُ ليس التكحل في العينين كالكَحَلِ(11)
وكما قال أبو تمام: والسيفُ ما يُلْفَ فيه صَيْقلٌ من طبعه لم ينتفع بصقـــالِ(12)
ولعل من هذا القبيل، تلكم المقارنة الذوقية التي صوّر بها ابن الأثير موقف منحط الذوق متبلد المشاعر والأحاسيس، عيّي الفهم، وهو يساوي في المقابلة، بين الأشياء المتنافرة المتضادة المتقابلة إذ يقول: " وقد رأيت جماعة من الجهال؛ إذا قيل لأحدهم: إن هذه اللفظة حسنة، وهذه قبيحة، أنكر ذلك، وقال: كل الألفاظ حسن، والواضع لم يضع إلا حسناً. ومن يبلغ جهله أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج، وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفَنْط،(13) وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل، وبين لفظة الأسد ولفظة الفَدَوْكَس؛ فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب، ولا يجاوب بجواب، بل يترك وشأنه؛ كما قيل: (اتركوا الجاهل بجهله، ولو ألقى الجَعْرَ(14) في رحله)، وما مثاله في هذا المقام إلا كمن يسوّي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد، شوهاء الخلق، ذات عيون محمرة، وشفة غليظة كأنها كلوة، وشعر قطط كأنه زبيبة، وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة، ذات خدٍّ أسيل وطرف كحيل، ومبسم كأنما نظم من أقاح، وطرة كأنها ليل على صباح، فإذا كان من سقم النظر أن يسوّي بين هذه الصورة وهذه، فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوّي بين هذه الألفاظ وهذه، ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام، فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب."(15)