أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـات بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا .
عاد المُصطفى ، المختار ، المحبوب الذي عاش ضحى مؤتلقا حتى أتاه يومه ، إلى جزيرة مولده في شهر تشرين ، شهر التذكار.
وما ان اقتربت سفينته من المرفإ حتى انتصب واقفا على مقدّمها ، ووقف حوله بحّارته ، وقد أفعمت قلبه الفرحة بلقاء الوطن .
وراح يتكلّم ، والبحر يهدر في صوته ويقول : (( ها هي ذي جزيرة مولدنا ، لقد لفظتنا الأرض هنا ، أغنية ولغزا : أغنية تتسامى إلى السماء ، ولغزا تحاربه الأرض . وأي شيء هناك بين الأرض والسماء يُقلّ الأغنية ويحلّ اللغز سوى هوانا ؟
(( لقد لفظنا البحر مرّة أخرى إلى هذه الشطآن ، وما نحن سوى موجة أخرى من موجاته . دفع بنا لنردّد كلامه ، ولكن كيف لنا أن نَقُوم بذلك ، ما لم نحطّم تناغم قُلوبنا على الصخر والرمل ؟
(( تلك هي شريعة البحر والبحّارة ، فإذا أنت أردت الحرية كان عليك أن تحوّل حاجات الحياة إلى ضباب . إن ما لا شكل له ينشد أبدا أن يكون ذا شكل ، حتى السديم الذي لا يُعد ، يودّ أن يتحوّل إلى شموس وأقمار ، ونحن الذين طلبنا الكثير وعدنا الآن إلى الجزيرة قوالب صلبة ، علينا أن نصبح ضبابا مرة أخرى ، ونأخذ في التعلّم من البدء . وأي شيء هناك ينمو ويشهق في الأعالي إلا وهو يتحطّم عند الهوى والحريّة.
(( سنظل بعد اليوم ، والى الأبد ، ننشد الشطآن التي نملك فيها أن نتغنى ، ونجد عليها من يستمع إلينا . ولكن مالقول في الموجة التي تتحطّم ولا من أذن تسمع تحطّمها ؟ إن ما يحتضن أسانا الأعمق ويغذّيه عو تلك الأنغام التي لا يسمعها أحد ، وهذه الأنغام أيضا هي التي تحفر في قرارة أرواحنا لتصوغ مصائرنا وتقولبها )).
وعند ذاك تقدّم أحد بحّارته وقال : (( لَقد قُدْتَ أيها المُعلم حنيننا إلى هذا المرفإ ، وها نحن وصلنا ، ومع ذلك تتحدّث عن الأسى والقلوب التي ينتظرها التحطّم )).
أجابه قائلا : (( ألم أتحدّث عن الحرية ، وعن الضباب الذي هو حريتنا الكبرى ؟ ومع ذلك ، فإني بألم حجبتُ إلى جزيرة مولدي حتى كما لو كنت طيف ذبيح جاء يركع أمام أولئك الذين ذبحوه )).
وتكلّم بحار آخر وقال : (( ها هي الجماهير على الشاطئ . لقد تنبّأت في صمتها ، حتى عن يوم قدومك وساعته واجتمعت من حقولها وكرومها ، لانتظارك ، تعبيرا عن حبّها واشتياقها )).
وألقى المصطفى من بعيد ، بنظرة على الماهير ، فعاودت قلبه ذكريات حنينها إليه ، وصمت .
وارتفعت لحظتئذ صرخة من أعماق الشعب ، وكانت صرخة ادّكارٍ واستعطاف .
ونظر إلى بحارته وقال : (( وما الذي أتيت به إليهم ؟ صيّادا كنت أنا في أرض نائية . وقد أفرغت بعزم وتصميم جعبتي من السهام الذهبية التي قدّموها إليّ ، غير أني لم آتهم بألهيّة ما ، ولم أتْبَع السهام ، ربما كانوا الآن قد انتشروا تحت الشمس مع ريش النسور الجريحة التي لا تهوى على الأرض . ولربما هوت رؤوس السهام بين أيدي أولئك الذين هم في حاجة إليها ، لينالوا بها خبزا وخمرا .
(( أنا لا أعرف ما حلّ بها وهي تطير ، ولا أين طارت ، غير أني أعرف أنها مالت وهي في السماء )).
(( حتّى ولو كان الأمر كذلك ، لا يزال الحب ملء يدي ، وأنتم يا بحّارتي لا تزالون توجّهون شراع رؤيتي في البحر ، ولن أكون أبكم ، سوف يرتفع صراخي حين تضغط يد الفصول على عنقي ، وسأغني كلماتي حين تلتهب شفتاي )).
وسرى الإضطراب إلى قلوبهم ، وهو يقول لهم هذه الأشياء ، وتكلم أحدهم قائلا : (( علمنا أيها المعلم كل شيء ا ربما أدركنا ما تقول لأن دمك يجري في عروقنا ، وأنفسنا من عبق طيبك )).
عند ذلك أجابهم والريح تهبّ في صوته ، وقال : (( أتركم جئتم إلى جزيرة مولدي لأكون معلما ؟ أنا ما زلت حتى الآن خارج قفص الحكمة وإني لصغير السن ، طريّ العود إلى درجة لا تتيح لي أن أتكلم عن أيّ شيء ، إلا عن نفسي التي ستظلّ إلى الأبد ، النداء العميق للعميق .
(( دعوا ذلك الذي يبتغي الحكمة ، ينشدها في زهرة الأقحوان الأصفر ، أو في حفنة من الطين الأحمر . فأنا ما زلت حتى الآن المغني ، وسأغني جمال الأرض ، وحلمكم الضائع الذي يتنزه النهار كله بين رقدة اليقظة ورقدة الكرى ، غير أني لن آلو تحديقا إلى البحر )).
ودخلت السفينة المرفأ ، وبلغت الشط ، وهكذا وصل إلى جزيرة مولده ، ووقف مرة أخرى بين أهله ، وارتفعت صرخة عالية من أعماق قلوبهم ، اهتزّت لها صحراء حنينه في قرارة سريرته.
وخيّم عليهم الصمت وهم يتوقعون سماع كلماته ولكنه لم يستجب لهم ، لأن كآبة الذكرى أفعمت نفسه ، وقال في سرّه : (( ألم أقل إنني سأغنّي ؟ ها أنا لا أملك إلا أن أفتح شفتيَّ ، ولصوت الحياة أن يغدو ويروح مع الريح لينعم بالفرح ويعين عليه )).
وعند ذاك ، تقدمت كريمة ، تلك الصبية التي كانت تلعب معه في حديقة أمه ، وقالت : (( أخفيت عنا وجهك اثني عشر عاما ، ومنذ اثني عشر عاما ونحن نتلهف لسماع صوتك )).
ونظر إليها برقّة متناهية ، لأنها هي التي أطبقت جفون والدته حين أقلتها أجنحة الموت البيضاء إلى السماء .
ثم أجاب قائلا : (( اثنا عشر عاما ؟ قلت : منذ اثني عشر عاما يا كريمة ؟ أنا لا أقيس حنيني بمقياس المجرّة ، ولا أرجّع عمق الصدى منها ، وذلك لأن الحب عندما يكون حبّ حنين يستنفذ مقاييس الزمن ، وترجيعاته .
(( هناك لحظات تحمل دهورا من فراق ، والنوى مع ذلك ليس إلا ضنى الروح ، وربما نحن لم نبتعد قطّ عن بعضنا )).
ونظر المصطفى إلى الناس ، وأبصر جمعهم كله ، شيبا وشبانا ، هزالى ومعافين ، أولئك الذين لفحتهم الشمس والريح ، والذين تبدو عليهم نضرة النعيم ، ورأى على وجوههم شعاعا من الشوق والسؤال.
وتكلم أحدهم فقال : (( لقد خيّبت الحياة ، أيها المعلم ، آمالنا ورغائبنا ، خيبة مريرة ، وإن قلوبنا لواجفة ، فلا ندرك بعد شيئا . أرجوك أن ترفّه عنا ، وتكشف لنا معاني أحزاننا )).
واختلج قلبه بالرأفة وقال : (( الحياة أقدم من جميع الكائنات الحية ، حتى الجمال تجنّح قبل أن يولد الجميل على الأرض ، والحقيقة منذُ كانت حقيقة ، عُرِفت ووُجد من تفوّه بها .
(( الحياة تتغنّى في صمتنا ، وتحلم في كرانا ، وحتى عندما نُغلب على أمرنا ونهوي ، تظلّ الحياة سامية معتلية عرشها .
وعندما نبكي ، تبسم الحياة للنهار ، وتكون حرة حتى عندما نجرّ سلاسل عبوديتنا .
(( كثيرا ما نطلق على الحياة أفظع النعوت والأسماء ، عندما نكون نحن أنفسنا في ظلمة ومرارة ، وكثيرا ما نحسبها جوفاء لا جدوى فيها ، عندما تتيه أرواحنا ضالّة في القفار الجرداء ، وتكون قلوبنا سكرى بخمرة الحرص والجشع .
(( الحياة عميقة وسامية ونائية غامضة . وإنها مع ذلك لقريبة . وإن كان نظركم الواسع لا يستطيع أن يبلغ إلا أقدامها ، وإن ظلّ ظلّكم يعترض طلعتها . وإن كان نفسُ نفسكم لا يبلغ إلا قلبها ، وكان صدى أدقّ همسة منكم يتحوّل إلى ربيع وخريفٍ في صدرها.
(( والحياة مقنّعة ومخبّأة ، تماما كما هي روحكم الكبرى مقنّعة وخافية . عندما تتكلم الحياة ، تتحول مع ذلك الرياح جميعها إلى كلمات ، وحين تتكلم ثانية ، تتحول البسمات على شفاههم ، والدموع في عيونهم ، إلى كلمات أيضا ، وعندما تتغنى يسمعها الصم وترتفع بهم إلى سمائها ، وحين تقبل ماشية يهلّل لها ذوو الأبصار المكفوفة ، وتأخذهم الدهشة ، ويتبعون خطاها في رعدة وذهول )).
وانقطع الكلام ، وغمر الناس صمت شامل ، وارتفع في فضاء ذلك الصمت نشيد لا يُسمع ، وسرّي عن الحضور ، ما كانوا فيه من همّ وضيق.