أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم، إذا كانت هذه زيارتك الأولى للمنتدى، فيرجى التكرم بزيارة صفحة التعليمـات بالضغط هنا. كما يشرفنا أن تقوم بالتسجيل بالضغط هنا .
[center]مواصلة لسلسلاتنا حول الإنزياح الأسلوبي، تعالوا لنقف اليوم عند قوله تعالى:" وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصمواكثير منهم والله بصير بما تعملون"المائدة71 حيث استوقفت الآية اللغويين جميعا وقدم كل منهم أكثر من وجه لتحليلها، وهذا مؤشر على أن هناك ظاهرة أسلوبية لافتة، إذ صادف وجود واو الجماعة المتصل بالفعلين:" عموا وصموا" وجود اسم مرفوع أيضا يدل على الفاعلية كذلك:" كثير" فهل هما فاعلان في الجملة ؟ . قال أبو عبيدة:"وقد استشهدوا له بلهجة هذيل وقول أبي عمرو الهذلي(أكلوني البراغيث) واستشهد له الفراء بقول الشاعر: يلومونني في اشترائي النخيــــــــ ــــل أهلي فكلهم ألوم أما الأخفش فقد مثل له بقوله:" رأيت قومك تلثيهم" ومثل له الزجاج بقوله:" جاءني قومك أكثرهم" معنى ذلك أن الوجه الأول يرى أن الفعل جاء مقدما مع إظهار كناية الاسم في آخره وهو قول أبي عبيدة والوجه الثاني يرى (كثير) بدل من الواو أما الوجه الثالث فقد قدره الفراء بقوله: ذلك كثير منهم ورجحه الزجاج بقوله: ذووا العمى والصمم كثير منهم. يستند الوجه الأول الأول على اللهجة العربية التي تقبل مطابقة الفعل للفاعل في الجمع مع مجيء الفعل مقدما، إنه لأمر طبيعي أن يتجه النحاة صوب نظام اللغة في المقام الأول ليقيسوا عليه الاستعمال اللغوي الذي يواجهونه، وقد جاء قياسهم آليا وعابرا، فالقرآن لم ينزل كله بهذه اللهجة، والتراكيب التي جاءت فيه مطابقة لها محدودة جدا، ولهذا فإن هذا التخاطب لا يعد عاديا إلا حين يستعمله الهذلي في لغة التخاطب اليومي، بمعنى أن السؤال لم يجد إجابة بعد: لماذا كتبت هذه الآية تحديدا بلغة أكلوني البراغيث؟؟؟ لماذا لم يكتب القرآن كله بهذه اللغة؟ ألا يدل هذا على أن هناك سرا في الآية؟ إن محاولة رد العبارة لأصلها الصحيح يقتل المعنى الجميل الذي أدته على شكلها الحالي، وأي انزياح هو اختيار مقصود لغاية جمالية في الشعر وجمالية إعجازية في القرآن الكريم، ويظهر هذا جليا من خلال القراءة الأسلوبية التالية: إن جنوح الآية إلى هذا التركيب واختيار لغة أكلوني البراغيث يراعي السياق الذي تتحدث عنه الآية، فهي لغة شاذة طبعا ومنحرفة عن القاعدة المطردة، وهؤلاء الذي عموا وصموا عن الحق هو شذوذ منهم وانحراف أيضا، فعبر الله عن الشذوذ بلغة شاذة فناسبت اللغة السياق. ثم ألا ترى أن الآية لو أتت عادية قائلة: " ثم عمي وصم كثير منهم" لجعلت المتلقي يعتقد أن عدد الذين عموا وصموا قليل أو كثير، اي قد يكون عددهم مائة مثلا أو أقل، ولكن حين قالت الآية عموا..قتل احتمال القلة، وجاءت "كثير" فأكدت هذه الاحتمال أيضا. ومن هنا يظهر مرة أخرى قصور نظام اللغة عن تفسير الانزياح الأسلوبي، فهو كشف لنا مكان الانزياح أما تعليل سببه فليس من اهتماماته، وتبقى الاجتهادات مفتوحة ولايمكن لأي اجتهاد أن يلغي الآخر، إلى هنا ننهي قراءتنا للشاهد، وإلى لقاء آخر بحول الله، مع احترامي وتقديري.