عبـد الله بن الزبيـر
كان عبـد الله بن الزبيـر جنينا في بطن أمه أسماء بنت أبي بكر ، وهي تقطع
الصحراء اللاهبة مغادرة مكة إلى المدينة على طريق الهجرة العظيم ، وما كادت
تبلغ ( قباء ) عند مشارف المدينة حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين أرض
المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلها المهاجرون من الصحابة ، وحُمِل المولود
الأول إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقبّله وحنّكه ، فكان أول ما دخل جوف
عبـد اللـه ريق الرسول الكريم ، وحمله المسلمون في المدينة وطافوا به المدينة
مهلليـن مكبرين فقد كَذَب اليهـود وكهنتهم عندما أشاعـوا أنهم سحروا المسلمين
وسلّطوا عليهم العقـم ، فلن تشهد المدينة منهم وليدا جديدا ، فأبطل عبـد الله إفك
اليهـود وكيدهـم
طفولته
على الرغم من أن عبد الله لم
يبلغ مبلغ الرجال في عهد الرسـول -صلى الله عليه وسلـم- إلا أن الطفل نما
ونشـأ في البيئة المسلمـة ، وتلقّى من عهد الرسـول -صلى الله عليه وسـلم-
كل خامات رجولتـه ومبادئ حياته ، فكان خارقا في حيويتـه وفطنتـه وصلابته ،
وكان شبابه طهرا وعفـة وبطولة ، وأصبح رجلا يعرف طريقه ويقطعه بعزيمة
جبارة
إيمانه
قال عمر بن عبد العزيز يوماً لابن أبي مُلَيْكة :( صِفْ لنا عبد الله
بن الزبير ) فقال :( والله ، ما رأيت نفساً رُكّبت بين جَنْبين مثل نفسه ،
ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها ، وكان يركع أو يسجد فتقف
العصافير فوق ظهره وكاهله ، لا تحسبه من طول ركوعه و سجوده إلا جداراً أو
ثوباً مطروحاً ، ولقد مرَّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي ،
فواله ما أحسَّ بها ولا اهتزّ لها ، ولا قطع من أجلها قراءته ولا تعجل
ركوعه )
وسئل عنه ابن عباس فقال على الرغم ما بينهم من خلاف :( كان قارئاً لكتاب
الله ، مُتَّبِعاً سنة رسوله ، قانتاً لله ، صائماً في الهواجر من مخافة
الله ، ابن حواريّ رسول الله ، وأمه أسماء بنت الصديق ، وخالته عائشة زوجة
رسول الله ، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله )
جهاده
كان عبد الله بن الزبير وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال
الفتوح الإسلامية ، في فتح إفريقية والأندلس والقسطنطينية ففي فتح إفريقية
وقف المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون ألفا ،
وألقى عبد الله نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوته التي تكمن في ملك
البربر وقائـد الجيش ، الذي يصيح بجنده ويحرضـهم على الموت بطريقة عجيبـة
، فأدرك عبـد الله أنه لابد من سقوط هذا القائد العنيـد ، ولكن كيف ؟نادى
عبد الله بعض إخوانه وقال لهم :( احموا ظهري واهجموا معي ) وشق الصفوف
المتلاحمة كالسهم نحو القائد حتى إذا بلغه هوى عليه في كرَّة واحـدة فهوى
، ثم استدار بمن معه إلى الجنود الذين كانوا يحيطـون بملكهم فصرعوهـم ثم
صاحوا :( اللـه أكبـر ) وعندما رأى المسلمون رايتهم ترتفع حيث كان قائد
البربر يقف ، أدركوا أنه النصر فشدّوا شدَّة رجل واحد وانتهى الأمر بنصر
المسلم ينو كانت مكافأة الزبير من قائد جيش المسلمين ( عبد الله بن أبي
سَرح ) بأن جعله يحمل بشرى النصر إلى خليفة المسلمين ( عثمان بن عفان ) في
المدينة بنفسه
ابن معاوية
لقد كان عبد الله بن الزبير يرى أن ( يزيد بن معاوية بن أبي سفيان )
آخر رجل يصلح لخلافة المسلمين إن كان يصلح على الإطلاق ، لقد كان ( يزيد )
فاسدا في كل شيء ولم تكن له فضيلة واحدة تشفع له ، فكيف يبايعه الزبير ،
لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حيّ ، وها هو يقولها ليزيد بعد
أن أصبح خليفة ، وأرسل إلى ابن الزبير يتوعّده بشر مصير ، هنالك قال ابن
الزبير :( لا أبايع السَّكير أبدا ) ثم أنشد
ولا ألين لغير الحق أسأله حتى يلين لِضِرْس الماضِغ الحَجر
الإمارة
ظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين مُتَّخِذا من مكة المكرمة عاصمة خلافته ،
باسطا حكمه على الحجاز و اليمن والبصرة و الكوفة وخُرسان والشام كلها عدا
دمشق بعد أن بايعه أهل هذه الأمصار جميعا ، ولكن الأمويين لا يقرُّ قرارهم
ولا يهدأ بالهم ، فيشنون عليه حروبا موصولة ، حتى جاء عهد ( عبد الملك بن
مروان ) حين ندب لمهاجمة عبد الله في مكة واحدا من أشقى بني آدم وأكثرهم
قسوة وإجراما ، ذلكم هو ( الحجاج الثقفي ) الذي قال عنه الإمام العادل عمر
بن عبد العزيز :( لو جاءت كل أمَّة بخطاياها ، وجئنا نحن بالحجّاج وحده ،لرجحناهم جميعا )
الحجّاج
ذهب الحجّاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير ،
وحاصرها وأهلها قُرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام ، كي يحملهم
على ترك عبد الله بن الزبير وحيداً بلا جيش ولا أعوان ، وتحت وطأة الجوع
القاتل استسلم الأكثرون ، ووجد عبد الله نفسه وحيدا ، وعلى الرغم من أن
فُرص النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مُهَيّأة له ، فقد قرر أن يحمل
مسئوليته إلى النهاية وراح يقاتل جيش الحجّاج في شجاعة أسطورية وهو يومئذ
في السبعين من عمره
لقد كان وضوح عبد الله -رضي الله عنه- مع نفسه وصدقه مع عقيدته ومبادئه
ملازما له في أشد ساعات المحنة مع الحجّاج ، فهاهو يسمع فرقة من الأحباش ،
وكانوا من أمهر الرماة والمقاتلين في جيش ابن الزبير ، يتحدثون عن الخليفة
الراحل عثمان بحديث لا ورع فيه ولا إنصاف ، فعنَّفَهم وقال لهم :( والله
ما أحبُّ أن أستظهر على عَدوي بمن يُبغض عثمان ) ثم صرفهم ابن الزبير عنه
، ولم يبالي أن يخسر مائتين من أكفأ الرماة عنده
الساعات الأخيرة
وفي الساعات الأخيرة من حياة عبد الله -رضي الله عنه- جرى هذا الحوار
بينه وبين أمه العظيمة ( أسماء بنت أبي بكر ) فقد ذهب إليها ووضع أمامها
الصورة الدقيقة لموقفه ومصيره الذي ينتظره ، فقالت له أمه :( يا بني أنت
أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق ، فاصبر عليه حتى تموت
في سبيله ، ولا تمكّن من رقبتك غِلمَان بني أمية ، وإن كنت تعلم أنك أردت
الدنيا فلبِئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من قُتِلَ معك ) قال عبد
الله :( والله يا أماه ما أردت الدنيا ولا رَكنْتُ إليها ، وما جُرْتُ في
حكم الله أبداً ولا ظلمت ولا غَدَرْت ) قالت أمه أسماء :( إني لأرجو الله
أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبَقْتَني إلى الله أو سَبقْتُك ، اللهم ارحم
طول قيامه في الليل ، وظمأه في الهواجر ، وبِرّه بأبيه وبي ، اللهم إني
أسلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فأثِبْني في عبد الله بن الزبير ثواب
الصابرين الشاكرين ) وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته
الشهيد
وبعد ساعة من الزمان انقضت في
قتال مرير غير متكافئ ، تلقّى الشهيد ضربة الموت ، وأبى الحجّاج إلا أن
يصلب الجثمان الهامد تشفياً وخِسة ، وقامت أم البطل وعمرها سبع وتسعون سنة
لترى ولدها المصلوب ، وبكل قوة وقفت تجاهه لا تريم ، واقترب الحجّاج منها
قائلا :( يا أماه إن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا
، فهل لك من حاجة ؟)فصاحت به قائلة :( لست لك بأم ، إنما أنا أمُّ هذا
المصلوب على الثّنِيّة ، وما بي إليكم حاجة ، ولكني أحدّثك حديثا سمعته من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :( يخرج من ثقيف كذّاب ومُبير ) فأما
الكذّاب فقد رأيناه ، وأما المُبير فلا أراه إلا أنت )
وتقدم عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- من أسماء مُعزِّيا وداعيا إياها إلى
الصبر، فأجابته قائلة :(وماذا يمنعني من الصبر ، وقد أُهْدِيَ رأس يحيى بن
زكريا إلى بَغيٍّ من بغايا بني إسرائيل ) يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق ،
أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبد الله بن الزبير عن جسده
قبل أن يصلبوه ؟؟أجل إن يكن رأس ابن الزبير قد قُدم هدية للحجاج ولعبد
الملك ، فإن رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية ل (
سالومي ) بَغيّ حقيرة من بني إسرائيل ، ما أروع التشبيه وما أصدق الكلمات
الموضوع الأصلي :
من صحابة الرسول الكاتب :
WAFAالمصدر :
منتديات طموح الجزائر