لكل اللذين حرموا نفسهم حق الحياة الهانئة لاجل ان يحظى فلذات اكبادهم بها
و لكل من التهمتهم صفحات النسيان
أهل
من الطبيعي أن اشعر بعد كل العمر الذي عشته في ترف و راحة بال و قوة
الشباب و السلطة بهكذا تعب و هكذا ملل و فراغ عاطفي، بل وحتى فراغ ساعات
يومي من المشاغل التي كنت اراكض الزمن خلفها ، يصبح مصيري هكذا امرأة
طاعنة في السن .
مجرد
امرأة نسيها المقربون قبل الأغراب ، أهل لا زال يطلق علي مصطلح امرأة أو
امرأة عجوز ، غزى اللون الأبيض سواحل شعرها و استحل جسدها مرقدا للآلام
المضنية ، و اكتسحت التجاعيد بشرة وجهها و جسدها النحيل.
اجل هي أنا التي تناظرني من المرأة ربما في الحديث عنها بصفة الحوار بعض من السخرية ، أهل أخشى جرح مشاعري
بالاعتراف أنني أصبحت تلك المرأة التي رميتها يوما خارج أسوار بيتي ، فقط
لان ابنها الخاضع لسلطتي كان موافقا لقراري إنها لا تناسب مستوانا
الاجتماعي الذي أصبحنا عليه ، اجل هي تلك المرأة التي ربته و كبرت عليه ،
و أنا جعلت منه رجلا معروفا و زوجا محظوظا ، و لكنه الآن يجعل مني هو و
أمه المتوفيان امرأة الحطام و المتقبلة للانتقام .
في
هذه الغرفة الضيقة ، التي أكاد اشعر أن أنفاسي تنازعني مكانا فيها ، أعاني
من الوحدة القاتلة ، إن الصمت المطبق على هذه الغرفة يشبه إلى حد بعيد صمت
القبور ، و إني لأتمنى أن يكون يوم قبري قريبا ، لأنني مللت الحياة التي
لا ارجوا منها غير الموت و انتظاره بفارغ الصبر ، عسى أن يكون التاريخ
المحدد لي معه قريبا و سريعا.
من الصعب أن تتعود سكن دار العجزة ، ليس لان المكان كئيب ، بل لان ساكنيه هم الكآبة بحد ذاتها ، لأنهم المنسيون الرافضون للنسيان .
لأنهم
الخاضعون لسلطة الذكرى ، و القابعون في دهليز الاشتياق لأولاد قد كانوا
يوما بين أيديهم يكبرون ، ربما لا نستحق الموت السريع و الرحيم ، اجل إن
الموت أهون من العيش منفيا عن اهلك الذين دفنت منهم الكثير بما انك قد
وصلت إلى سن سمح لفلذات كبدك أن ترميك إلى دار المسنين .
كنت
أرى في الدار سابقا مكانا لإيواء من لا أهل لهم يعتنون بهم , و عندما
أقنعت زوجي أن يضع والدته فيه رأيت فيها مكانا أيضا لغير المرغوب فيهم
بهذه الحياة ، و عندما وجدت نفسي فيه أيقنت انه أيضا مكان لمن لا مكان لهم
، و مكان لمن ينتظرون موعدهم الأخير مع ملك الموت.
كل
الجدران هنا تضيق عن ساكنيها رغم ألوانها المزركشة ، و لكن يكفيك أن ترى
كل صباح و أنت تحاول النهوض من سريرك و قد أرهقك داء المفاصل عن القيام ،
و أنت تبحث فوق منضدتك عن نظاراتك كم العجز القابع في أنفسنا ،و صدى صرخة
الشماتة من قلوبنا التي أنكرت يوما علينا حق الشيخوخة و الكبر.
يا ملامحي المبتسمة بحزن كل الرفاق هنا هم ساكنون مؤقتون ، لا تستطيع أبدا أن تجد بينهم من يخبرك انه ينتظر فقط أن يغادر المكان .
الكل
يعرف أن يوم التسليم ، و يعني هنا تسليمك من يدي ابنك أو ابنتك إلي يد
المساعد الاجتماعي ، كما لو انك طرد بريدي قد وضع على غلافه طابع و هو
شهادة عمرك.
انك
شخص أصبح غير مرغوب به و أصبحت تشكل عالة بينما من قبل كنت المعيل، و كنت
المنبع و يوم تسليمك هو الختم النهائي على جواز أمومتك و أبوتك يلغي
تأشيرتك إلى قلوبهم .
أن تعيش عمرا طويلا في زمننا يعني أن تكون قد اكتسبت لنفسك الحق في السكن بدار المسنين.
وقت الفراغ الكثير لدي هنا اقضيه في الحديث إلى قاطنيه معي ، و لكنني بعد شهور مللت الكلمات التي تتحدث كلها عن الأمل في عودة الأولاد للزيارة ، حتى أحلامهم تصبح صغيرة و قليلة ،أمل في زيارة خاطفة يطفئون بها شوق البعد و ليس حتى أمل العودة إلى كنفهم ، أو هو الرغبة في الموت .
أتحدى شخصا هنا يعرف طاعنا في السن حاول الإنتحار، لا أدري هل هي لعنة العمر الطويل و التي تمنحك صبرا كثيرا ، و أيضا شيئا من الحسرة على نفسك أن أضعت كل عمرك لأجل أن تضيع حتى آخرتك .
أم
أن التهور المعروف به الشباب قد ضاع أيضا مع الشباب، إنها الأحلام الصغيرة
التي ننتظر حدوثها هي ما تمنعنا من الانتحار، و لكن ما العيب في الانتحار
حنينا إلى أشياء قد منحناها عمرا فمنحتنا حق التشرد في هذه السن المتأخرة.
السنا أولى إذا بمحاولات الانتحار التي نقرا عنها في الجرائد ، السنا الأولى بالأماكن الأولى على لائحة أعمال ملك الموت لهذا اليوم .
فكرت
مليا في تقصي الأحداث التي أوصلت المرافقين لي في هذه الرحلة الأخيرة من
سنين حياتي،والتي أوصلتهم إلى الأبواب الحديدية الكبيرة للدار، لا تضحكوا
فعلا هي أبواب عالية كما لو أن بمقدور أحدنا القيام بمحاولة فرار، و التي
بكل تأكيد ستكون نهايتها الفشل .
و
عرفت عنهم الكثير من ربى أولاده ليرموه هنا ، من عصى والديه فكان هذا
جزاءه الأخير،و تراه مبتسما لأنه يملك أملا أكبر في أن الله قد يغفر له ما
دام يأخذ قصاصه في الدنيا ، فكرت أن أخبره أن الله قد يأخذ منك قصاصك في
الدنيا و الآخرة و لكن لماذا أحرمهم حتى حق الحلم الأخير لهم في جنة أبدية.
عرفت
منهم أيضا من سابق الموت أولاده إليه واحدا تلو الآخـر، و تركه بلا كفيل
في هذه الحياة و تجدهم الأكثر فرحا بالموت ، ربما هو موعدهم الأبدي مع من
رحلوا عنهم مسبقا ، إنهم الأكثر صمتا ، و الأكثر ذكرا لله ، ربما لأنه ليس
لديهم من يتحسرون على تركهم لهم مخيرين لا مجبرين .
رايت منهم من لم يحصل على ولد و ربوا و تعبوا و في الاخير تنكر لهم من كانوا لهم أهل عندما تخلى عنهم أبائهم و أمهاتهم .
رأيت من سكنوا هذه الدار و هم لا يعلمون أين هم إلا في الغد عندما يستيقظون و يجدون أنهم أصبحوا شيئا إضافيا في قائمة أبنائهم .
الدار لا تقتل و
لا تطيل العمر ، هي مجرد فندق ننزل فيه ضيوفا إلى حين رحلة القطار الأخير
، كي تغادر أرواحنا إلى خالقها من جديد ، و كي يبلى ما تبقى من أجسادنا
المنهكة من الحياة في الدنيا .
الموضوع الأصلي :
الرافضون للنسيان ........ الكاتب :
المدير{ع~المعز}العامالمصدر :
منتديات طموح الجزائرالمدير{ع~المعز}العام : توقيع العضو
|