ياسمين .
في
بناء منعزل ٍ بشبّاك واحد و اطىء و مزراب طويل ، تشتمله حديقة واسعة غنّاء
، يحتلُ منها طرفاً قصيّاً عن البوابة ، حيث يسكن عامل الحديقة و حارسها
في آن واحد ، و هو الذي قَدِمَ من الريف مؤخراً مصفّقاً بكفيّه الخشنتين
على لاشيء . شابٌ في مطلع العمر ، متوسط القامة بشعر فاحم أسود . حطّت به
الرحال واحداً من عمال المدينة ممن تجدهم على الأرصفة و في محطات الباص في
الصباح الباكر متلفعين متلثمين كأنهم في صحراء ، يلبسون القبعات و القمصان
المغبّرة ، مشعثي الشعر متهدّلي الشارب . و قبل أن تُصرف له وظيفة الحارس
، و هي التي كانت حظّاً سعيداً يُحسد عليه كما قال لهُ موظف البلديّة ،
كان يحمل الطوب و اللِبن على ظهره و يصعد بها الدرجات التي لا تزال على
العظم في ورش البناء ، مُفرغاً هو رفاقه شاحنة كبيرة في الصباح و أخرى
ثانية في المساء . إلى أن بات يحسُّ بالدوخة و آلام في الرقبة ، و لم يكن
لهُ من بُد سوى أن يفتّش عن شغل ٍ غيره ، ليس فيه من الإرهاق و الجهد مما
يُضاعف عليه الأوجاع و الدّوار .
ثم
استقرَّ في جنّته الأرضية ، محاطاً بالورود و الأشجار المتنوعة الطبيعيّة
منها و الصناعية و حتى المستوردة . كانت حديقة عامة ، يربطها بالشارع
الرئيسي طريقٌ قصير ضيّق كأنه مدخل ، يتوافدُ إليها الزوار و المتنزهين
نهاراً ، فتعجُّ بالبّاعة المتجوليّن و الأطفال اللاعبين اللاهين بالألعاب
و المراجيح ، هذا ما عدا القادمين إلى المتحف أو المكتبة ، مما يخلُص إلى
نتيجة أن الحديقة في النهار ليست هي الحديقة ذاتها في الليل . متى ما
أُشعِلتْ الأضواء و مشى تحت أنوارها شابٌ و فتاة ، أو أم تجرُّ عربة طفلها
، أو جمعٌ من الشباب قليل جاء يروّح عن نفسه بالسهر . و رغم أن ذلك كله
كان يمضي رتيباً لا جديد فيه ، إلا أن حمية العمل و الرغبة الضارمة بأن
تغنى الحديقة أكثر و تبقى في أحسن حال فيها ما فيها من المسرّة و الإبتهاج
، كان كفيلاً بأن يظلَّ ممسكاً بمقصّ التقليم و طوريّة الحراثة و منكوش
التراب . حتى إذا ما فَرُغَ من عمله جلس مساءً يتأمل العالم في حديقته ،
ناظراً إلى مريديها محدّقاً في الوجوه ، مسترقاً السمع للأحاديث . في حين
يلامس وجهه نسيم المساء البارد ، فتكرُّ به الذاكرة إلى قريته البعيدة و
أعراسها و غيطانها و محافلها . لم تكن قط تُثلِج في قريته ، كانت تكتفي
السماء هناك بالمطر ، فتفيضُ الآبار و ترتوي الأرض المشاع . نَدفتْ منذ
يومين ثلجاً مثل القطن يسّاقط بروية و شاعرية تورثُ النفس شعوراً بالراحة
و السكينة . سقط الثلج ساعة الظهر ، شاهده و هو يتكوّم فوق أوراق نبات
السيّاج و النَجيل ، و يغطيّ أحواض الطين ذائباً على السطوح و حوّاف
الجدران ، مصحوباً بتيّار هواء ٍ بارد ، أرغمهُ على الإكتفاء بالنظر من
خلف زجاج النافذة ، و هو الذي يرغب بالخروج و القبض على البياض المقصوف
براحتيّه ، ممرراً قطرات الماء الخفيفة في خطوط يده . و بينما هو يمليّ
عينيه و يقلّب وجهه ذات اليمين و ذات اليسار ، إذ وقع بصرهُ ، في الجو
الغائم مغبّش الأضواء ، من خلال زجاج النافذة المسيّجة و المعرّقة بالبلل
، على شخص تبيّن فيما بعد أنه فتاة . كانت متناسقة القوام بجذع ٍ ملفوف لا
هي بالسمينة و لا النحيفة ، بنفس طوله تقريباً . كانت واقفة ً فوق المقعد
الحجريّ الطويل ، تعبثُ أناملها بعريشة ياسمين مدلاة ً فوق السيّاج ،
و لم يكن عليها غير بلوزة من الصوف ، و حجاب يسترُ قماشه رقبتها و جانبي
رأسها . و بان على السماء أنها بوارد الزخّ و الغزارة في منحها و عطائها .
فخطرَ لهُ تسليفها معطفهُ ، و هي الوحيدة الموجودة في مرمى شِباك المطر و
الوحيدة التي لا يُفهم سبب وجودها في الحديقة المكشوفة في مثل هذه الساعة
. و على الفور ، جَذبَ طرف المِعطف و راح يركض بإتجاه الفتاة غريبة
الأطوار . مدّ لها إياهُ مفتوحاً بالعرض كي ترتديه ، و كان قد لاحظَ أنها
بنفس طول قامته تقريباً ، و إن كان على نحافة مرضيّة بعض الشيء . أدخلتْ
ذراعيها فيه و زررته حول خصرها ، و قد اتشحّ وجهها بحمرة الخجل و سمع منها
كلمة شكراً و رأى يديها تستقران بجنبها بعدما كفتا عن التلصص في الياسمين
. و في اليوم التالي ، طُرِقَ الباب طرقات يد ٍ صغيرة ، و انفرجَ حقاً عن
وجه ٍ صغير مدوّر عرفَ منهُ أنه ُ أخيها الأصغر و قد جاء يردُّ المعطف ، و
لم يدعْ مجالاً لكلمة واحدة ، إذْ أخذَ يجري نحو البوابة بإتجاه الشارع
الرئيسي .
تحسّن
الجو و كفكفتْ السماء دموعها بغيم ٍ أبيض كالمناديل . وضعَ المعطف الذي
أرعشهُ استلامه مرة ً أخرى ، لقد كان يضمُّ في بطانته أنثى كاملة قبل
ساعات قليلة ، منسحباً على كتفين ناعمين ليسا كتفيه . ظلَّ يفكّر فيها طول
الليل ، و لما أثقل جفنه الكرى قُبيل الفجر ، أيقنَ حينما استفاق ، أن
أفكارهُ لم تدعه و شأنه ، بل لقد حَلُمَ بها و هي تسحبُ اناملها من
الياسمين مولية ً ظهرها للأشجار و النافورة تغرغر على لا مبعدة منها ، و
لم تكن السماء تُمطر . و فجأة ً انقلبتْ العريشة إلى صِلّ برأس ٍ أصفر .
فصرخ و صرخ ، و كان لا يزال خلف الزجاج ، في الفراغ . و عندما قامَ بسحب
المزلاج إلى الأسفل استعصى و لم يفتح ، و لما بدأ يفتّش عن المفتاح كان قد
عاوده الدوار في رأسه .. و استيقظ .
شمّ
للمِعطف رائحة عِطر ، و دفءاً بين ثناياه خالهُ لوهلة ٍ لها ، لكنه تذكّر
فردهُ إياه فوق المدفأة . لم يكن لون المِعطف أو تفصيّلتهُ الرجاليّة
لتلائم تلك الحوريّة . لكنها على أيّة حال دخلتْ فيه و مرّرتْ لحمها و
عظامها في خيوطه ، و هو الآن يتحسّسه و يقلّبهُ بين يديه ، مقرّباً إياهُ
من أنفه ، داسّاً كفيّه في جيوبه ، معانقاً جوانبه .. ياقته ، أزراره ،
حواشيّه . و ظلّ شارداً في وقوفه حتى تناهى إليه أصواتٌ ضجّتْ في الخارج ..
عُنيَ
بالعريشة منذ تلك اللحظة أشد العناية و أبلغ الإهتمام ، قصّ أطرافها
الذابلة المصفّرة و اعتاد سقايتها كل مساء . كان يغضب لمجرّد أن رأى أحدهم
يقترب منها أو يهمّ بملامستها ، كانت مرخية ً أذيالها فوق أسلاك السياج
بدلال و زهو ، أصلها في حوض حجريّ أشبه بالكأس . و مع الأيام نَمتْ و
أينعَ بياضها و باتت محط الأنظار و علامة للإنشداه و الإعجاب .
و
في الأيام الممطرة التالية ، ظلّ متسمّراً قبالة النافذة كالمسحور ، يرقبُ
فتاته التي لا تأتي . راودتهُ خاطراً وامضاً .. تتسربلُ ميّاسة ً طريّة
كغصن ِ البان ، يعثرُ إثرها على عصفور ٍ منكمش ٍ في صدره ، يلمسهُ بأصبعه
ِ لأجل أن يطير و يرفّ في الفضاء .
تبلل
الوشاح على رأسها ، و ساحَ الكحل من على عينيها .. و لم يطر العصفور ، ظلّ
وحيداً منكمشاً متربّصاً ينتظر ، بحاجة لأن يسمع كلمة أخرى من شفتيها
المُدمتين ، فصوتُ رصاصة ٍ أخرى .. و يقفزُ العصفور من الدغل .
الموضوع الأصلي :
يـاسميـن ( قصة قصيرة ) . الكاتب :
المدير{ع~المعز}العامالمصدر :
منتديات طموح الجزائرالمدير{ع~المعز}العام : توقيع العضو
|