من محظورات طفولتي الاقتراب من بيت عم عاطف..
ولم يكن هذا المحظور خاصا بى ، بل كان يخص كل أطفال شارعنا .. كلنا ، أمهاتنا حذرتنا من أن نتكلم مع عم عاطف ، فضلا عن الاقتراب من بيته أو ارتكاب الخطيئة العظمى بدخول البيت معه.
لم يشغل الأمر أحدا من الأطفال وخصوصا أن بيت عم عاطف لم يكن به أطفال او أشجار توت حتى نهتم به..
ولكن الأمر كان مختلفا معي ، لأنى كنت طفلا فضوليا حاد الذكاء ، ولا يقبل بالمسلمات..
فأذكر مثلا أنهم قالوا لى إن السرقة حرام..
وإن من يسرق مرة، لابد أن يعتاد السرقة ولن يستطيع مقاومتها..
وذات مساء ، وأنا على السرير بعينين مفتوحتين قبل النوم أتخيل اشياء وأشباح وراء الستارة ،
قررت أن أثبت أنه يمكنني أن أسرق مرة واحدة وأن لا أعتاد الأمر كما يقولون .
هي مرة واحدة فقط ..
ودبرت جريمة صغيرة بسرقة عشرة جنيهات من نقود أمى
ثم
شعرت ببعض الشفقة عليها وأنا أراها تدور حول نفسها معظم النهار تبحث عن
النقود الضائعة ، ولكن الشفقة لم تكن أقوي من تنفيذ خطتي ،ومن شراء كل
الأشياء اللذيذة من مقصف المدرسة ،
وأن أقف احتسى زجاجة ( الكولا) مع قطع ( الشبيسى ) من الحجم الكبير والذي لم يكن يسمح لى مصروفي أن اشتريها مجتمعة أبدا ..
فى اليوم التالى فككت النقود من مكتبة أمام المدرسة حتى لا يثير المبلغ الكبير شكا فى نفس مدرسة المقصف
وفى الفسحة تحركت بغنيمتي نحو المقصف للشراء ، ثم توقفت بالقرب منه لأنه كان مزدحما كما هو الحال دائما في أول أوقات الفسحة .
انتظرت قليلا وأنا أتابع الزحام حتى يقل ، ثم برقت فى رأسي فكرة.. أن أدخل فى الزحام وأسحب كيس الشبيسى من المدرسة دون أن تشعر..
ودق قلبى بعنف وفاجأنى المغص والرغبة في الدخول إلى الحمام عندما أدركت أن هذه ستكون سرقتي الثانية ،
وأن النجاة من الجريمة الأولى هيأت لي أن الأمر سهل ..
وقد شعرت به سهلا فعلا
ودبرت
الأمر بسرعة البرق فى عقلي الصغير واندفعت أزحام زملائي . وعندما أصبحت فى
المقدمة كانت المدرسة مشغولة بشدة بين عشرات الأيادى الممتدة لها بالنقود .
وبخفة تسللت يدي وخطفت الأقرب إ لى ، وكان بسكويته بالشيكولاته
وفى مرحلة ما ، بينما كانت يدي تنسحب لتعود لى بالبسكويتة قبض يدي احدهم على كفى وهي مطبقة على الغنيمة ..
وغاص قلبي فى متاهات خوف عنيفة وأنا أسمع صراخ المدرسة وسبابها ثم صفعات من زميلتها..
ولا أذكر إلا أنى كنت اردد أن معي نقودا أخرجتها من جيبي وأنا أبكى وأردد بتشنج إنى كنت سأدفع ..
وانتهى
الموقف وحمدت الله أن بكائي الهستيري قد نجانى من طلب استدعاء ولي الأمر،
حيث كنت أتشنج وأصر على أنى كنت أنوى الدفع ،مما قد جعل الشك يدخل قلب
المدرسة أنى ربما أكون مظلوما فعلا.
أما عم عاطف فكان يدور حوله همس من الكبار أثار فضولي
لماذا هذا الرجل بالذات ؟؟
كنت
أعرف عنه أن لديه ابنة وابنا ، وأن الولد قد هاجر إلى أمريكا وأن البنت قد
أحبت شخصا من اقاربها وتزوجته ، وتركت البلد أيضا وهاجرت إلى كندا .
ولم يبق فى البيت الكبير ذي الدورين إلا عم عاطف وزوجته التي فضلت لأسباب مجهولة أن تتركه وتعيش في بيت للمسنات تابع لجمعية خيرية .
لماذا عم عاطف بالذات؟!
كنت أراه جالسا وراء شرفته فى الدور الارضى ، يتابع لعبنا بشرود وحزن ويبلل البقسماط في كوب الشاي بالبن ويشربه فى صمت شديد .
ربما كان يعلم تحذير الكبار لنا إذ أنه كان يكتفي بالنظر إلينا ولا يحاول التحدث معنا .
وقررت أن أعرف سر هذا الرجل وبيته المحرم علينا ، من دون بيوت الشارع كلها .
وكان الخيال قد جمح بي ، وصور لى أشياء تحدث في البيت إذا أنا عرفته فسأنضم للكبار و يمكنني وقتها أن أغيظ كل الأطفال ..
فى وقت مغارب اقتربت من نافذته وابتسمت ،
فابتسم لى وأبقي بصره معلقا بوجهي .
اقتربت أكثر وقلت له : ازيك يا عم عاطف
رد تحيتي فرحا ودعاني فورا للدخول لشرب الشاى بالبن بالبقسماط معه
ودخلت و قلبي يدق دقات عالية تشبه دقاته عندما كنت على باب بيت العفاريت فى الملاهي
فى الداخل أجلسنى عم عاطف ودخل ليصنع لى الشاى وهو يرحب بى فى سرور بالغ
كان البيت نصف معتم مثل كل بيوتنا فى وقت المغرب ، فلا إضاءة للنور إلا بعد أن يحل الظلام ، وذلك تفاديا لبقاء الذباب فى البيت .
ولكن كانت رائحة اليبت معطنة وكأن هناك ماء لم يجفف جيدا
عاد
عم عاطف بالشاى ثم سحب كرتونة قديمة من تحت الكنبة وجلس يفرجنى على ألعاب
قديمة ، فاستولى على انتباهي قطار طويل أخذت أبعث به فى محاولة لتشغيله
وعندما تحرك القطار صحت فرحا : هيييييه
فضحك عم عاطف عاليا واحتضننى مهنئا بقوة ،
ثم ضغط أكثر على ذراعى وظهري وانا بين يديه وشعرت بضغطه يزدا د وأنا أحاول الانفلات منه ..
خفف من ضغط يديه ، وكنت مازالت فى حضنه عندما أصبح وجهه فى وجهى فقبلنى بعنف فى فمى .
اشمئززت منه ومن القبلة ، وانفلت بعنف منه وانا امسح بقايا من لعابه على شفتى ،
وملكنى الخوف بدون سبب ، و شعرت أن هناك شيئا لا أستطيع فهمه
قلت له بمجرد ان تركني: انا ماشى واتجهت نحو الباب
فسمعته يناديني ويقول إنى لم أشرب الشاي بعد ، ويرجوني أن ابقى .
ولكنى لم أجبه ..
وخرجت وقد حل الظلام تماما فى الخارج .
جلست على الرصيف وفى قلبي غم عنيف لا أدرى سببه .
لمحت عم عاطف وهو وراء نافذته ، وبيته غارق في الظلام ..
ولا أدري إ ن كان ذلك حقيقة ام خيال ؟ ولكنى رايته يبكى.
بوشاية صديق خبيث عرفت أمى أنى دخلت عند عم عاطف
فضربني أبى علقة ساخنة وكنت أبكى وأنا أردد : إنه فقط دعاني على
الشاي باللبن
وسألنى أبى : فقط
إجابته بصدق كاذب : فقط
وكنت صادقا قليلا لأنى لم أكن أعرف ما هو الشئ الآخر الذي حدث والذي كان يخشاه أبى ..
ولكنى أيضا كنت أعلم أنه حدث دون أن أدري كنهه أو اسمه .
ولم أدخل بيت عم عاطف مرة أخرى ،
ليس لأن أبى ضربني ،
ولكن لأني كرهت هذا الشئ الذى لا أعرف اسمه.